لا جدال في جدة مفهوم المسؤولية المجتمعية في أدبيات النظم الاقتصادية والإدارية، وفي أدبيات المقاولات والمؤسسات الإنتاجية، حيث يرتبط المفهوم بجملة من السياقات والأطر النظرية، التي لا يمكن فصلها عن مباحث ونظريات المقاربات ذات الصلة بسجلاَّت البحث في العلوم الاجتماعية. نتابع في حلقات هذا العمل، السياقات التي أنتجت مفهوم المسؤولية المجتمعية في عالم جديد. ونبحث في صوَّر وكيفيات تلقِّي الثقافة الاجتماعية في مجتمعنا لهذا المفهوم، حيث نبحث في الشروط والمداخل المجتمعية والسياسية والثقافية، التي تساعد في عملية التهييء لولوج دروب المسؤولية المجتمعية وما يتصل بها من قيم. أوليات في الحدود والمستويات ليس الغرض من هذا المحور قياس أنماط التلقي العربي لمفهوم المسؤولية المجتمعية، ولا معاينة صوَّر وأشكال التلقي الحاصلة في تجلياتها البحثية المختلفة، أن الغرض منه مُعْلَنٌ في نهاية توضيحنا للإشكالية، التي رسمنا فيها حدود المنطلقات الكبرى لورقتنا. صحيح أن عملنا يُقَدِّم في سياقات مختلفة بعض الإشارات والملاحظات، التي وقفنا عليها ونحن نراجع بعض الأدبيات العربية في الموضوع، من قَبِيل لجوء البعض إلى التحفُّظ على المفهوم بذريعة ارتباطه بالعولمة أو التعولُم القسري. أو الربط الذي يمارسه البعض الآخر، عندما يلجأ أثناء الحديث عن المفهوم إلى تذكير القراء بأعمال الخير والإحسان في تراثنا وتاريخنا، فنحن نعتقد أن هذه الآليات والإسقاطات في التعامل مع المفهوم غير منتجة، ولا تساعد في عمليات التوطين التي نرسم خطوطها العامة في هذا العمل. نتابع في عملنا هذا، اهتماماً نظرياً يندرج ضمن أفق نُعْنَى فيه بمسألة انتقال المفاهيم من محيط ثقافي إلى آخر، ونُسَلِّم فيه بمبدأ واحدية الثقافة الإنسانية وتنوُّعها، وتشابه المجتمعات البشرية رغم تعدُّد مسارات تطوُّرها. نهتم بالمفهوم وسياقاته ومرجعياته، وبما لا يتبلور إلاَّ انطلاقاً منه. كما نهتم بمشاريع نقله وتوطينه في محيط مجتمعي جديد، حيث يمكن ملاحظة صور إعادة التبلور في صلتها بالشروط الجديدة المرتبطة بالمجال الذي ينقل إليه (المتغيرات المحلية). وهنا نشير إلى الإضافات والتحويرات التي نفترض أن تلحق ببعض مكوِّنات وأوجُهه عند توطينه وتبيئة مكوِّناته في مجتمعنا، ونقرأ التحوُّلات التي يمكن أن تطرأ عليه بصورة إيجابية، لاعتقادنا أنها تساهم في إضفاء الطابع الكوني عليه. نتجه هنا لإبراز نقطة أساسية تتعلق بالدفاع على كونية النماذج المعرفية في مجال العلوم الإنسانية، إلا أن هذا الدفاع يقتضي التأكيد على أمرين اثنين: أولهما يتعلق بنسبية النتائج المحصلة في هذا المجال، كما تبلورت وتتبلور في تاريخ تطور العلوم الإنسانية في الغرب، وثانيهما يُشير إلى أن استحضار المتغير المحلي (الظواهر الإنسانية المتعلقة بواقعنا في العالم العربي) الذي يمنح النماذج العلمية المذكورة رجحاناً أكبر، بل إنه يوسع أفق هذه النماذج في اتجاه شمولية أكبر، وكفاءة تعميمية أكثر نجاعة. وهو الأمر الذي يمنح هذه النماذج المعرفية قوة نظرية تفوق القوة التي امتلكتها، عندما كانت تستطيع تفسير معطيات التاريخ الأوروبي وحده. إن ما يسوغ بحثنا في الشروط، هو ما لاحظناه من تلوينات أضيفت إليه لحظة توطينه حيث مارس المحيط التاريخي الاجتماعي الأوربي، المختلف عن المحيط الأمريكي، رغم أن ما يوحدهما هو صعود النظام الاقتصادي الرأسمالي وبروز الوحدات الاقتصادية الكبرى. وسبب التحويرات التي أدخلت عليه، يعود إلى الفارق المركزي الذي يُحدِّد انغراس الرأسمالية في أمريكا، مقابل عناية بعض الدول الأوروبية بمبدأ الحماية الاجتماعية. ولأننا على بيِّنة من أن الشروط العامة في مجتمعاتنا تختلف عن الشروط العامة في المجتمعات، التي تَشَكَّلَ المفهوم ضمن سياقاتها العامة، فإننا نرسم العناصر التي تسعف بإمكانية تهييئ شروط تمثُّل إيجابي ومنتج له، ولما يرتبط به من تصورات. نميز في مرجعية التحديث التي تحضر كمرتكز نظري في ورقتنا، بين أمرين إثنين، يتعلق الأول بمقدمات الحداثة المتمثلة في المبادئ الكبرى المؤسسة للمجتمع الحديث، وللآفاق التي جرى تركيبها في المجتمعات الغربية منذ القرن التاسع عشر. ويتعلق الثاني بالمتغيرات الاقتصادية والسياسية المستجدة في العالم منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي، والتي ترتَّب عليها كثير من مظاهر ما أصبح يعرف بالنيوليبرالية، حيث تبلور نظام اقتصادي متعدد الأقطاب والمراكز، ومرتكز على تدفق المعلومات وتنظيم الشبكات، شبكات المعرفة وشبكات السوق في عالم تداخلت فيه المصالح. وقد أفرز النظام المذكور، مؤسسات عامة لم يعد بإمكانها التكفُّل بمصالح المواطنين (الصحة والتعليم... إلخ)، كما عرف بداية انهيار متدرِّج للدولة الوطنية. ربما يبدو التطوُّر المذكور نوعاً من التناقض بين المشروع السياسي الحداثي والمنزع النيوليبرلي، لأن المنحى الذي تعزَّز في المنظور النيوليبرالي اتجه إلى تفتيت قضايا المجتمع والنظر إليها من زوايا منفصلة: قضايا الشباب، قضايا المرأة، قضايا البيئة، قضايا الثقافة، حقوق الإنسان، تمويل المقاولات الصغرى، الريادة في الأعمال، الأمن والسلام... إلخ، الأمر الذي ترتَّب عليه محاولات تفريغ معنى المواطنة من المضمون الذي أصبحت تحمله في المجتمعات المعاصرة. كما أن وضع حقوق الأفراد أصبح يوضع قبل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. إن هذا المنظور التجزيئي الذي تتبناه الإيديولوجية النيوليبرالية ساهم في منح التوجُّهات الكبرى لما يجري في المجتمع اليوم أبعاداً تقلص من أهميتها، ومن أهمية استخدامها في بناء ما يكفل بلوغ المرامي المُعَزِّزَة للتكافؤ في العلاقات المجتمعية. ننطلق في هذا المحور من أولية أخرى، مؤداها أن عمليات التعولُم التي حولتها التقنيات الجديدة في التواصل إلى قاعدة مركزية من قواعد العيش في عالمنا، تفضي إلى حصول كثير من التفاعل القسري بين مجتمعاتنا وما يجري في مجتمعات العالم أجمع، وخاصة مع أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، وهما معاً كما نعلم اليوم يساهمان في تركيب المعالم والسمات الكبرى لعصرنا. ضمن الأفق الذي سطَّرنا في الفقرة السابقة، نتصوَّر أن مجتمعاتنا تنسج مع العالم اليوم علاقات من التفاعل والمثاقفة والنفور الممتزج بالقبول، سواء في الاقتصاد أو في الثقافة والفنون. وداخل الأفق نفسه، ينسج أغلب ساكنة العالم مع بعضهم البعض تقاطعات وتماثلات، كما يشاركون في معارك ويخوضون في جدالات لا تنتهي إلا لتبدأ، في قضايا تتعلق بالهويات واللغات والخصوصيات، وأسئلة القيم والتقدُّم والمستقبل المشترك، دون إغفال البؤر المشتعلة هنا وهناك، والتي تخفي علاماتها وعناوينها الظاهرة أكثر ما تعلن. تقدم الثقافة العربية المعاصرة نموذجاً يعكس صور تفاعلها مع الثقافة العالمية، وخاصة في المستويات التي ترتبط بخلاصات المعرفة العلمية ومكاسبها، حيث تتجه جهود الجامعات ومراكز البحث العربي إلى بناء ما يعزِّز مشاركة مؤسساتنا البحثية وباحثينا في تطوير معرفتنا بالمجتمع والاقتصاد والتنمية، خدمة لصيرورة تطوُّر مجتمعنا في عالم يتغير ويتطوَّر باستمرار. إننا نعتقد أنه بدون تعزيز قيم الحداثة السياسية والفكرية والمجتمعية، لا يمكن توفير الأرضية المناسبة لتوطين ونشر قيم البحث العلمي ومستجداته في ثقافتنا ومجتمعنا، ولهذا يشكل العمل من أجل نشر وتعميم هذه القيم شرطاً من الشروط الضرورية اللازمة لنشر وتدعيم آليات التواصل الإيجابي مع العالم، ومع المكاسب التي بنتها وما فتئت تبنيها الثورات والتحوُّلات السائدة في المجتمعات المتقدِّمة. تتضح أهمية هذا الشرط عندما نكون على بينة بأن المشروع الحداثي في السياسة والمجتمع، هو أولاً وقبل كل شيء مشروع في الحرية، حرية الرأي والقول والتفكير، وهو قبل ذلك مشروع المواطنة والمجتمع المدني والتضامن، وكل القيم التي بلورها المشروع الليبرالي كمشروع في التحرر السياسي والثقافي وذلك منذ القرن السابع عشر. ويقتضي شرط الحداثة والتحديث في علاقته بإنتاج العلوم الإنسانية التفكير في تهييء الشروط المؤسسية الحاضنة للبحث في هذه الظواهر، فلا يمكن أن ينتعش هذا البحث بدون إمكانيات مؤسسية ومالية داعمة، بل ومُؤسِّسَة لمجال هذا البحث، فبدون هذه المؤسسة بل المؤسسات ستظل خطوات البحث متعثرة، وهذا ينعكس بالضرورة على إرادة التأصيل فلا نتقدم لا في بناء الظواهر ولا في معرفتها، بل يظل الجهل المرادف للتقليد سيد الزمان، وتظل نخب الباحثين تعيد إنتاج أطياف النظريات الجاهزة دون أن تتمكن من بناء ما يُسعف بمعرفة واقع الإنسان العربي، وواقع المجتمع العربي في مختلف تجلياته ومظاهره.