*** قالت لي ، وهي تراني أضحك ، غيرَ مهتمةٍ بمعرفة ماذا أثارني حتى انفجرت في ضحك عادي في الحقيقة: إني لأعجب كيف تستطيع أن تضحك رغم معرفتك أنك ستموت؟ فقلت غير عابيء: بل إنني أضحك لأنني سأموت. ثمّ َاختفت الشمس التي كان بعض ضوئها قبل قليل يملأ جانباً من صالة البيت حيث كنا نجلس، بهيَّ الأطياف، وبدأت أمطارٌ غيرُ متوقعةٍ غزيرةً مدرارة.ً... *** (...فرأيتهم وهم يدفنونني، وقد لف جثماني في كفن ، لم يمنعني من سماع أصواتهم ، وإن كان حجب الرؤية عني، لكنهم على عادتهم في الكشف عن وجه الميت حتى يلقوا عليه نظرة أخيرة ، م إن فتحوا الكفن عني حتى دوَّت ضحكتي كضاعقة ، فرأيتهم يضعون أصابعهم في آذانهم ، ثم رأيت قطرات مطر أولى ، فتبسّمتُ ضاحكاً من عبث غيث لن يسعف كائناً بعد موته ، لينهمر بعدها المطر غزيراً ، ولولا وقوع المقبرة على منحدر لأغرق الناس الذين تشبثوا بحضور مراسم الدفن إلى نهايتها، ورغم ذلك كاد طغيان الماء أن يملأ القبر ، لأحس رغم موتي بنوع من الانتعاش، لم يكن كافيا بالطبع لإخراجي من حالة موتي، ولكن نكايةً في من يتصورون أنهم بالانتهاء من دفني سينتهون مني، رغبت في أن تزِداد قوة هذا الصوت الهادر الذي خيل إليهم أنه صوت رعد، بينا لم يكن أكثر من صوت رجل لا يهاب أن يعلو ضحِكُهُ في وجه الموت) *** انصرفتْ إلى أوراقها التي لا تبعدها عن التفكير في الموت، إلا لتحذرني أكثر من مخاطر ارتفاع الضغط الشرياني ، وذكر ما يوضح أنه من أسباب الجلطة الدماغية:، فذكرتني بذلك أنني لم أتناول قرص وقايتي اليومي منه هذا الصباح، وإن قارب الوقت موعد الغداء، لم تخِفْني تحذيراتها التي غالباً ما أخفف من جديتها بالذهاب عنها إلى الاستمساك بسخريتي التي ترفضها عندي، من غريزة الإيروس، وادعائي أمامها أنني لا أهاب أن أموت، وإن كان ذلك لا يرضيها: ما زلنا في حاجة إليك. فرفعتُ عقيرتي بصوت مرح ، غير ساخر : أنا لا أكذب حين أقول إنكِ ملهمتي. نطقتُ الكلمة الأخيرة بفرنسية أضحكتها طريقة نطقي لها، فبادرت إلى إخراجها بتضييق ما بين شفتيها حسب النطق الفصيح، فضحكت، وأنا أحاول أن أبعدها، عن سوداوية أعانيها أنا بهدوء ساخر ، وتعيشها هي بعنف جامح جادّ. *** ( كنت لا أزال بين جانبي قبري يكاد يغمرني ماء السيل الذي منع حفَّاريه من أن يهيلوا التراب إلى حين ، ولكن استمرار الأمطار العاصفة، مع صوت الصواعق ، جعلهم يخرجونني ويؤجلون الانتهاء من دفني إلى حين انتهاء السيل، مما أثار حفيظة كثيرين ، كنت واحداً منهم، فأنا ، رغم أن مسألة موتي لم ترض ابنتي التي قالت لي بصدق أنها لا تزال في حاجة إليّ، كنت أستعجل الدفن، لأتأكد مما سمعت عن مواقف تليه ، حدثنا عنها الواعظون كثيراً، لإيماني أنني لم أقترف ما يستحق أن اعاقب لأجله أنا الخارج من دنياهم ، عارياً من أي مكسب حلال أو حرام) *** تناولتُ قرصي غير مبالٍ إلا بما بين يدي من عمل لا أرى له نهاية قريبة، فككل عشق لا يكاد ينتهي يتعلق الإنسان بهذه الحياة ،وإن كانت أشبه شيء بالسراب ، يريد الإنسان أن يرتوي من هذه الحياة التي لا شيء فيها يسمن أو يغني من جوع. لكنَّ صدق حب ابنتي هذه يقلقني ، فأنا لا أستطيع إرضاءها باختيار البقاء أو رفضه ، أوعناق الإيروس بشكل لا ينسجم مع شيخوختي التي لها منطقها الخاص ، عندي أم عند غيري، أحببت دنياها، أجلْ. ورغم ذلك فإن لي إكراهاتي أنا الشيخ الفاني. *** (كانت الأمطار قد توقفت فجاة ، وانسحب آخر زخاَّتُ السيل، ليعود المشيعون إلى وضعي في لحدي ، ثم إلى وضع صفائح مربعة من الإسمنت لحجب جثماني عن أي يدٍ نابشة أو خدشِ نابٍ ضال، وبعد ذلك انهال التراب فوقي منثالأ ، فاسوَدَّ ما حولي، بل اشتدَّتْ الظلمة التي أطبقت عليَّ مُمسكةً بخناقي، لأدخل في انتظار أولى مراحل ما أتوقع من تعذيب، وقد استحال عليَّ سماع صوت يأتي الموتى من خارج القبر يدعوهم إلى أني يتثبتوا في كلامهم أمام من سوف يسألهم، لكن الجميل في الأمر أنني كنت بالفعل فاقداً لأي حسٍّ ، كأي إنسان مات فانقطعتْ صِلاتُه بما حوله، ورغم ذلك لم يتوقف ضحكي الذي لم يكن قلبي ولا عقلي يتحَكَّمُ فيه.) *** و على منحدر كثيرالأحراش والصخور، في مقبرة ( جنان القايد) أعالى (فوق السوق)، أقربَ شبهاً إلى الطلل المهجور ، كان هناك ضريح تُحدِّدُ رسمَه أحجار، لا يحْمل شاهدةَ ، ولا أية علامة تدل على زمن وفاة صاحبه، عَلَتْ تربته زهرةٌ تدل على اقتراب ميعاد ربيع سيغطي الترب والأحجاروبضع شجيراتٍ معاً، بألوان لا تشبه في شيء رفات ما انطوت عليه من أجساد بشرٍ كثيراً ما كانوا يسخرون من أطياف لا تتوقف عن الرقص تحت عين شمس لا تمل من شروق وغروب عبثيَيْن منذ أقدم الدهور. كانت ابنة الشيخ تقف كأضعف يتيمة،ضئيلة الجسم، وهي تمسك بين يديها مجلة فرنسية تنصح من مخاطر ارتفاع الضغط الشرياني، مع عللٍ أخْرَى، وقد بلغتُ من العمر عتياً، لا تزال واقفة لا تدري سبيلا للعثور على ضالتها بين القبور. كان هناك من سمِعَها تهْمِس في صوْتٍ يُشبه نشيجَ الحائرين : أنا ملهمتك يا أبتي، وكثيراً ما نصحتُ لك ، فمن يلهمني إلى حيث أسير؟ لم تكد تُكْمِلْ ما كانت تجهش بها، حتى أحاط بها ظلام كثير ، دون أن تَرى دليلاً، أو تُسمع من في القبور: « ma muse » شفشاون في (20/04/2016)