بما أننا بصدد خطّين متوازيين لا يستقيم الواحد منهما دون حضور الآخر، أقصد المقاربة النقدية والتجربة الزجلية الشبابية ، فإنني وسمت مداخلتي المتواضعة هاته ب العنوان أعلاه. ...ولا بدّ في البداية من ضرورة التذكير أن التجربة الزجلية كانت الى عهد قريب من التجارب الابداعية المغضوب عليها رسميا ومؤسساتيا ، وكانت الساحة الجامعية ،في أحسن أحوالها ، متنفسها الوحيد في اطار لقاءات متوترة عابرة ، وبحوث معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة استثارتها في الغالب الأعم اهتمامات بعض الباحثين بالظاهرة الغيوانية ... بل حتى بعض المنابر الاعلامية بالأمس القريب كان من سابع المستحيلات تخصيص ولو جزء صغير من منشوراتها لقصيدة معزولة أو تعليق أو خبر يتيم ، حتى حقّ في التجربة الزجلية قول الشاعر: الى أن تحامتني العشيرة كلها ......... وأفردت افراد البعير المعبّد وحصل هذا بدعوى أن هذا المنتوج المبدع باللهجة العامية لا يرقى الى المنتوج المدوّن باللغة المقدّسة الضامنة الوحيدة لأصالة التاريخ العربي ولآفاق القومية العربية ولُحمة الدين الاسلامي... وهي الحالة التهميشية والموقف الازدرائي التي عاشتهما التجربة الزجلية منذ نشأتها ، ويكفينا فيها الاشارة الى العناوين الأولى التي رمت الى تعريفها ،من بينها « العاطل الحالي والمرخص الغالي « لصفي الدين الحلي بين العطالة وفرصة الترخيص للكلام المباح قبل ان يدرك شهرزاد الصباح ، و»بلوغ الأمل في فن الزجل» لابن حجة الحموي ، وهو لا يبرح عتبة الامل في تفصيل مالا يستحقّ التفصيل ، وحصر وظيفته وجدواه في الانشاد والتطريب ، ولا يدخل دار الأعيان الا من باب الامتاع والمؤانسة ، وربطه كشعر عامي بالملحون من اللحن أي الخطأ في النحو والاعراب ، والخروج الفجّ عن قواعد اللغة الفصحى الصارمة والمتعالية ... وأنه ضرب من الملحون أو الموشّح وتابع لهما في اطار التفاعل بين الموروث الأندلسي والطارئ المغربي ،وهوما ضاع معه سؤال الاصل حتى قال الدكتور عباس الجراري :» من الصعوبة تحديد نشأة شعر أداته لهجة عامية دارجة « .وفي نفس السياق ، وربطا بين المنتوج الابداعي وجذره الاجتماعي ،نستحضر ما قاله العلامة ابن خلدون :»إن المغاربة تركوا الاعراب الذي ليس من شأنهم ، ونظموا على منواله ماسمّوه «عروض البلد» ...ويذكر الجراري أيضا أن أبا الحسن الششتري، الذي قدم الى المغرب، كان يتنقل بين المدن المغربية ينشد الزجل في الأسواق ويردد لازمته : شويّخ من أرض مكناس وسط لسواق يغني آش علي من الناس واش على الناس مني وهو ما يحصل معه التركيز على بيئة النشأة حيث يلح الجراري أنها « نشأت شعبية محلية نابعة من البيئة ومتأثرة بها كغيرها من الفنون والآداب الشعبية «...والأمثلة في هذا السياق متوفّرة لا يخلو منها كتاب تعرّض لإشكالية النشأة . يندرج هذا التذكير العام في سياق إبراز حالة «اللانص « التي عاشتها بمرارة التجربة الابداعية الزجلية ، وهي الحالة التي ينبغي أن تظل عالقة بالأذهان حين تناول هذه التجربة بالدرس والتمحيص... فقط للبحث لها عن «نصّيتها» الضائعة ، ببلاغتها المتفرّدة خصوصا وأن الحال لم يعد هو الحال ، وقد حصل التراكم الكمي من الدواوين الزجلية ، وحظيت بالاهتمام المؤسساتي ، وعرف الصوت الزجلي مؤخرا ذيوعا وانتشارا من خلال اللقاءات والمهرجانات والروابط والاتحادات بكل احتفاليتها بالأصوات المتميّزة ...وهو ما يلزمنا بمقاربات مغايرة تساير وتيرة الإيقاع السريع إبداعيا ، وتشتغل من داخل النصوص وليس اطلاقا من خارجها . في هذا السياق ، وبمسح متواضع وعام للمواكبة النقدية ، يمكن ، في تقديري، اختزالها في نوعين أو قراءتين : القراءة العاشقة: وهي حقّ اريد به باطل ، إذ كيف يمكن أن أقرأ تجربة زجلية ما دون أن أعشقها؟! وهل هناك قراءة غير عاشقة!؟ فحتى حين نتبنى ما أسماه باشلار» شاعرية أحلام اليقظة» بكل نقدها المبدع ، فإنها إنما بنيت على أساس أنتربولوجي قوامه العناصر الأربعة ( الهواء الماء التراب النار) بكل عللها العلمية . القراءة الأكاديمية: الدارسة المشتغلة وفق منهج علمي ، غير أنها في الغالب إنما اعتمدت على رصيد جاهز عربيا أو غربيا ، وفي هذا السياق أستحضر ما قاله الأستاذ الباحث محمد بوستة، وهو يشتغل على تجربة الزجال إدريس المسناوي:» ... وألزمنا من جهة أخرى ، بتحري قراءته وتحليله في ضوء مفاهيم النظريات الشعرية الحديثة ، ومقولات منهجية نعلم مسبقا أنها حكر على نصوص الشعر الفصيح ،ومن ثم فاستقدامها لتحليل نصوص ابداعية توسّلت العامية هو في حدّ ذاته فعل ينطوي على قدر من المجازفة والمغامرة .» . علما أنه من الخطأ الاعتقاد أن البلاغة ، العربية منها والغربية ، بريئة ومجرّدة إلى الحدّ الذي يمكن أن تتلبّس بكلّ الأشكال الابداعية مهما كان منشأها وموطنها وتربتها . انه الأمر الذي يجعل كل دارس للتجربة الزجلية أو الشعر العامي أو الشعر المحكي أو الأدب الشعبي وهي التسميات التي تستدعي التركيز على طبيعة هذا النص في حيرة من أمره وتلزمه بضرورة البحث له عن مرجعية مغايرة لان السلف أو الآخر انما اجتهدا في التقعيد ل» النص» وليس ل»اللانص» ،والزجل لا نص يبحث بلهفة عن «نصّيته « ، تلك التي لن تتأتى إلا بدراسته من الداخل. بالضبط من نقطة التماس بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى ... تلك التي عبّر عنها شاهد من أهلها الأستاذ الزجال أحمد المسيح حين قال :» الدارجة ولدتني والفصحى ربّتني « ،وحين لم تسعفه العبارة ، على حدّ تعبير أستاذنا أحمد المجّاطي ، قال بلغة أخرى :» تولدت فدكالة وتقولبت فرباط « بكل استعاريتها العميقة و كل هول الاحساس بالازدواجية اللسانية التي عاناها الطفل فينا ، على أساس أن نأخذ قوله هذا مأخذ الجد بكل ثقله الدلالي ، وبعده المعرفي . من صلب نقطة التماس هاته ،ومن عمق هذه الحيرة ، هذا التجاذب بين القطبين ، ومن سرّ هذا البرزخ الأربعيني الحاد ، ولدت، في تقديري،هذه الحساسية الجديدة ، هذا السيل الجارف من الكتابة الزجلية الشبابية ، وهي تؤمن أن الحداثة انما هي بكل بساطة « تجديد آليات التفكير بين سؤال القطيعة والاستمرار» ، هذا بطبيعة الحال دون أن ننسى أننا نبدع أدبا شعبيا .... إذن بين الولادة / الدارجة/ دكالة بلغة أحمد المسيح ، والتثقيف / التربية/ القولبة باعتبار التثقيف تقويم وتهذيب الوحشي / الغفل/ الخام ،من قلب هذه الثنائية الحارقة يقول الزجال عادل لطفي في قصيدته «عطش لقصيدة» من ديوانه « عطش يروي سيرته» باستفهام استنكاري دال ، وهو يسائل القصيدة : كيف كنت قبل مايتسقى طيني بدمك قبل ما نتشكل قبل ما نتبدّل «قبل ما نتشكّل ، قبل مانتبدّل» ، قبل ما تربيني الفصحى ، قبل ما نتقولب ، هو العطش في نقطة التماس ، في محنة الحيرة ، لذلك ، ووعيا من الزجال بضرورة الوفاء لمنطق الولادة ، جعل من نفسه راويا يحكي سيرة الظمأ ، راويا وليس شاعرا ، حتى لا يتماها وشاعر الفصيح كما نظر له الجرجاني في « أسرار البلاغة» ، بل ليتماهى والشاعر الملحمي كما نظّر له أرسطو في «فن الشعر»، في علاقة حميمية بمنطق السيرة الشعبية التي هي الأخ/ التوأم للقصيدة الزجلية في إطار شجرة الأنساب الأجناسية لانتمائهما معا لنفس التربة ، لنفس المنشأ ... وفاء على الأقل للشفهية الملازمة لهما معا. «عطش يروي سيرته» بكل ما تحمله السيرة الشعبية من ارتواء من ثدي الثقافة الشعبية، ومن قلق الحيرة وسؤال المصير بين القطبين، يقول الزجال : لقصيدة ملحفة بالحيرة ...وملّي توقف قدّامك كيف تولدات يقدر يريب جبل يقدر يفيض طوفان وهو نفسه ما يعبّر عنه استعاريا أيضا حين يقول : لقصيدة عروسة قبل ما تنكتب كتحنّي وبين رمزية الحنّاء، بكل أصولها المرتبطة عادة بلحظات الولادة ، وبين الكتابة بما هي حصيلة تربية ومسار تشكّل، تتأرجح السيرة بين العطش الصحراوي والخوف من الارتواء المديني ، وهو ما يحسّ به الزجال ثقيلا ، يقول : [ياه .... شحال ثقيل هاذ الكلام] ويضعها رسما بين معقوفتين للتدليل على انتمائها للشخص في الزجال ، لذاته الفردية التي حملت همّ الذات الجماعية ... والتي سمح لها ببرهة داخل قصيدته أن تنفرد بشكواها ، وهو ما يؤكد بالملموس ان «الأنا» الزجلية ليست ك»الأنا» الفصيحة ، فحين يبرزها يؤشر عليها، وحين يكتب الحيرة يكتبها دون المعقوفتين ، يقول :» الطريق...لسان الوصول... انت كتمشي وهو كيلحس طريقك...»، وهي الحيرة التي تؤرق الزجّال وتجعل منه فقط بابا للدخول والخروج ، بابا للدارجة وبابا للفصحى ، بابا لدكالة وبابا للرباط ، بابا للولادة وبابا للتربية ، يقول: يا ليعتي صرت باب نعطي لهادا الدخول ولّاخر الخروج وأنا محروم منهم بجوج بكل رمزية الباب في إقامته الحيرى في نقطة التماس ، نقطة «البين البين» . تأسيسا على ما سبق يمكن اجتراح ثلاثة خصائص ل»عطش يروي سيرته « ، ويمكن تعميمها بكل التعسف النقدي المشروع في كل حالة تصنيف يستهدفها : المعارضة :والمقصود بها ذكر الشيء ونقيضه ، بناء على منطق الباب الجامع بين الضدين ، وهو ما يذكي الحوارية ، ويلغي كل وثوقية واطلاقية ،ويبرز التناقضات ويكشف التناقضات ، ويعري الزيف والرياء ، تنسيبا للحقيقة ، وفتحا لباب السخرية والهزء من العالم حين تصبح الحيرة موقفا ، يقول الزجال : «كتغيبي وأنت حاضرة فيّ / كنغيب وانا حاضر فيك» الإشارة : والمقصود بها الإيجاز والتكثيف واقتصاد المعنى ، مما تنتج عنه « الومضة الزجلية» أو «الشذرة الزجلية» بما هي اشراك المتلقي في إنتاج « الحكم التأملي» ، وفاء لطبيعة « المثل « كفرع آخر من شجرة النسب ، بكل الهمس والإيحاء الهادفين الى التداول الحواري المشكّل لعمق التجربة الزجلية ، يقول الزجال : سوالف العطش / تدلات / على اكتاف النهار . الترميز: والمقصود بها توظيف الرمز المحمّل بالدلالات والتي تعفي من لغو الكلام ، ويحصل هذا غالبا بالخرق كتمرد شبابي على القيم الزائفة من جهة ، ويكسب النص شاعريته من جهة أخرى ، يقول الزجال : القصيدة اللي شفت فيها زينك / غرقاتك / يا نرسيس . كل هذه الخصائص ( المعارضة ، الإشارة ، الترميز) هي مكونات صغرى تندرج في خاصية كبرى عنوانها «تذويت النص الزجلي « تتقمص فيها ذات الزجال الذات الجماعية وهي تروي سيرة الألم والأمل في ملحمة الحيرة والقلق ، يقول الزجال في قصيدة « عطش القصيدة « : القصيدة / ايلا جاعت / تأكل من قلب الزجال . وكل ما أخشاه أن تتحوّل بفعل «صدمة الحداثة «الى : « القصيدة ايلا جاعت تاكل من بردعة الزجال « . - نص المداخلة التي قدمت بها في الندوة التي انعقدت ضمن فعاليات المهرجان العربي السادس للزجل بأزمور 27-02-2016