الإحساس بالحركة، هو أول انطباع ينتابك وأنت تتملى لوحات مَحاسِن لحرش (رواق محمد السرغيني بالمديرية الجهوية لوزارة الثقافة بتطوان، ضمن برنامج ليلة الأروقة في دورتها العاشرة، نونبر 2015). حركة دائرية تقود المرفق واليد في تثبيت عجينة اللون وانزياحاته. اللمسة منذورة لنظام مُدَوْزَن بإيقاع الجسد وهو في حضرة الإنجاز. وما اللمسة – في هذه الحال- إلا «صورة» لما ينطبع من خلال الضَّربة. ضربة الفرشاة التي «تُهَنْدِس» متوالية التَّماسّات والتراكبات والتضادات المحتكمة لإشعاع الضوء الدَّوّار، حيث «الدائرة – توضح محاسن – شكل يرمز إلى الوقت في المكان والزمان، أيقونة هندسية وسيميائية، أتوسل من خلالها وأستلهم. إبداعاتي هي الجوْف الذي يستوعب مخيلتي. أتصور الدائرة باعتبارها دائرة الحياة، وركام من الأشكال الكاملة». لعلنا بإيزاء مقاطع مشهدية من طبيعة مُفرغَة من التفاصيل والأشكال الدقيقة، فقط تواشجات المادة واللون (اللون باعتباره مادة) تتماهى مع تبادلات الملء لتفرش الأرض وتعزل السماء، فيما الأشكال تذوب وتسيح بقدر ما تتجاور لتفسح ديمومة المدى وتوالده، كأنها تتشكل لتدوين المدى الفضائي. ذلك ما يجعل اللوحة، بالرغم من «ضيقها» ومحدودية مساحتها، فضاء مفتوحا يبعث على التيه والتلف. لن تقف الأشجار والجبال والحواجز أمام امتداد الرؤية، حيث كل العناصر تتماسك وتنجذب إلى الأفق الموصول بفساحة العمق. في تقويس وتمديد الضربات الموكولة لتناغم ذاتي، تنطبع المناظر المختزلة والمدموغة ببُعد تجريدي يُبقي على آثار التلقائية المُوجَّهَة بالحدوس والتمرن التقني. وهي تنتقل من فساحة المجال البيئي، لتسجيل طبائع السحنات، تظل ضربات محاسن على سَجِيَّتها، لكن بقدر من التخطيط الذي يرسم الحروف والملامح التي سرعان تتلاشى، لأن الأمر لا يتعلق ببورتريهات وشخوص معينة، بقدر ما يروم الأمر التوكيد على نظرات الآخرين التي تتقاسم نظرتنا وكياننا. في هذا السياق، فإن الإنسان لدى محاسن «ليس إلا تعدد وجوه، تعدد تعابير ونظرات مختلفة منبعثة من نفس المصدر. فالوجوه التي تغير الأشخاص هي حقيقة أريدها شخصية في أعمالي، مع الإبقاء على ألواني وتقنياتي والروح التي ألحقها بالوجوه». من ثمة، تتوحد السحنات على صعيد الأسلوب التصويري والمعالجة التقنية التي تقوم عليها صفتها المظهرية، بينما تتعدد من خلال مفارقات الأعين المفتوحة التي لا تمتلك إلا أن تشركنا في توقها وحلمها وتطلعها وانكسارها. يبدو أن محاسن لحرش، بهذه الأعمال التي أضحت تعكس لمستها الممهورة بنَغمِية ذاتية بادية، إنما تصر على تجويد رؤيتها ونمط تعبيرها، بعد أن سطرت طريقها الذي بدأته انطلاقا من الملاحظة ومحاكاة «الواقع» وتثبيت دقائقه استنادا إلى مواضيع «تشخيصية» ذات صلة بمدينتها وبيئتها، إلى أن شرعت في تفكيك المرئي المعيش، وتخليصه من الزوائد والجزئيات، لتتخذ هذا المسلك الذي يشغل فيه المتخيل نصيب الانزياح L'ecart، مما أضفى على لوحاتها مسحة «التجريب» المرشح باستمرار لإبداعية راقية. ( * فنان تشكيلي وناقد)