الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    العسكريات يضيعن لقب أبطال إفريقيا بعد الخسارة من مازيمبي 1-0    المغرب التطواني يحقق فوزا مهما على حساب مضيفه اتحاد طنجة    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الإمارات: المنتخب المغربي يفوز بكأسي البطولة العربية ال43 للغولف بعجمان    المنتخب الوطني المغربي يتعادل مع الجزائر ويتأهل إلى نهائيات كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن قراءة الآخر في قصة «الجار الغريب» لعبد الغني أبو العزم

تتسم قصة» الجار الغريب»(1) بتوغلها العميق في إعادة بناء الذات من خلال قراءة الآخر- الغير قصصياً. لذلك، يلاحظ القارئ أنها اختارت شكلاً قصصياً يعكس طبيعة الحدث الذي ارتأت قصه، والتعبير- عبره- عن حيرة» أنا السارد» في تتبع معادلة الذات/ الغير، وهو تعبير يكشف عن رؤية مؤلفها الفنية للعالم وقيمه وأشيائه معاً.
والحالة هذه، تسعى قصة» الجار الغريب» إلى أن تترك لدى قارئها الانطباع بأنها نص قصصي ذو حبكة متحركة وفق خط سردي متسلسل ومتماسك. لكنه، ورغم تناصه مع رواية «الغريب» لأ لبير كامي التي تحكي عن موت غريب لرجل غريب، إلا أنه حريص، فنياً، على مفاجأة قارئه، حيث نسترجع فيه مع سارد مشارك ( يسرد بضمير المتكلم وضمير الغائب معا) حالة رجل مثقف، لا يحمل اسماً، حل ذات يوم في أحد الأحياء الشعبية وهو يحمل معه أثاثاً فاخراً، فسكن رفقة قطته أحد بيوتاته، لكن أهل الحي وسموه ب»الرجل الغريب» لغرابة أطواره، وغرابته عنهم، وكثرة تجنبه الاحتكاك بهم، رغم إقامته بينهم أزيد من سنتين. فصار الكل يتكهن بحقيقة شخصيته ويحاول فك طلاسمها، بعد ما طال غيابه واشتد مواء قطته، فحضر ذات عشية رجال الشرطة القضائية يتقدمهم وكيل الملك رفقة مقدم الحي، وبمعية رجال الإسعاف الذين أخرجوه، بعدما كسروا الباب برفق، محمولاً على نعش من غرفة نومه التي وجدوه فيها مشنوقاً بحبل.
وفي هذا السياق، حيث يوصف» القتل» بحياد هادئ، وحيث يتلاشى الفرد الإنساني في متاهات الحياة اليومية، وتتمزق خيوط العلاقات الاجتماعية، فالملاحظ أن القارئ يجد نفسه أمام نص قصصي بقدر ما يفاجئ قارعه على طريقة» تشيكوف» باعتماده رؤية» مزدوجة تجاه نفس الشيء»(2)، أي تجاه الأثاث الفاخر الذي حمله الغريب معه لما قطن الحي، من خلال قول السارد في بداية النص: « وقد فكر آنذاك أنه سيكون محط مراقبة شديدة، وأن كل من لاحظ أثاثه يمكن أن يفكر يوماً في سرقته.»(3) وقوله في وسطه:» فالكل يريد أن يعرف (...) لماذا اختار السكن في هذا الوسط الشعبي؟ وهو المالك لكل ذلك الأثاث الفاخر، وما حمل من متاع،»(4) بقدر ما نجده لا يبتغي وصف حالة فرد إنساني غامض الشخصية، وشديد الحيطة والحذر، وجد مشنوقا في غرفة نومه في حي شعبي يرصد كل شاردة وواردة، بل يتجاوز ذلك، وفق ما يبدو، إلى لفت الأنظار إلى أن هناك شيئاً ما وقع، وأن هناك قاصاً/ متتبعاً للأثر، يريد أن يعبر عن هذا الذي وقع، ليس لأنه علم حيثياته وأمسك خيوطه، بل لأنه لم يفقهه البتة.
وفي كل ذلك، إن الهدف من هذه السطور هو قراءة الشخصية القصصية الرئيسة في قصة «الجار الغريب» من خلال حضورها في الفضاء القصصي الذي ارتأى السارد لها الحركة فيه، استناداً إلى أن القراءة ليست شيئاً أكثر من كونها» فك الشفرات» أو العلامات، لغوية كانت أو غيرها، وبالنظر كذلك إلى أن الشخصية القصصية علامة لغوية دالة لا يمتلئ مدلولها إلا بقراءة آخر كلمة من النص. كما أن قراءتنا لأي عمل قصصي تمثل، حسب أحد الدارسين، «غالباً، في أمرين مركزيين: أولهما الحيز (الفضاء) وآخرهما الشخصية التي تضطرب في هذا الحيز، بكل ما يتولد عن ذلك من اللغة التي تنسج، والحدث الذي تنجز، والحوار الذي تدير، والزمن الذي فيه تعيش.»(5) خاصة وأن النص قد أنتج في مرحلة تعرف، في تاريخ المغرب، بسنوات الجمر والرصاص، فهل نحن أمام أسلوب مميز للتعبير عن اغتيال مثقف؟.
الفضاء في» الجار الغريب»
اختار السارد فضاء حي شعبي لتشخيص موضوعاته، فحدده دون أبعاد هندسية، للهم إلا من كونه يتشكل من أزقة تطل عليها نوافذ البيوت التي سكن « الجار الغريب» إحداها، انطلاقاً من أن المكان يتحدد بساكنيه، ووفق ما ذهب إليه «غاستون باشلار» بقوله: إن» المكان المسكون يتجاوز المكان الهندسي»(6). لذلك، يحضر فضاء الحي الشعبي، هنا، بوصفه مكاناً قصصياً قليل الأوصاف تجري فيه وقائع النص/ حدثه، منذ البداية و حتى النهاية، حيث استقر في أحد بيوتاته رجل» كان يعيش وحيداً، لا صديق ولا قريب، ولا من يزوره، يعيش على هواه، وحسب مزاجه، كما يبدو، ولم يكن سكان الحي يعيرونه في البداية اهتماماً»)7(.
ولئن كانت هذه البداية المتسمة بسردها الوصفي تروم إعطاء القارئ» الانطباع بالغرابة»، من خلال تشخيصها أزمة غياب التوافق التي باتت بين الإنسان وصلاته الاجتماعية، وفي سياقنا هذا، بين» الجار الغريب» وأهل الحي، فالملاحظ ، كذلك، أنها تضعنا في الإطار المكاني الذي تتحرك فيه الشخصية، وأن هذا المكان يتفرع إلى مكانين هما: مكان خاص يتجلى في البيت بصفته مكان الإقامة والاستقرار. ومكان عام يتمثل في الحي بوصفه فضاء اللقاء والعبور والجوار، حيث تقطنه شخصيات ترتبط به ارتباطاً شديداً، وتحتل في أزقته مواقع تتيح لها رصد تفاصيله وجزئياته الدقيقة، يقول السارد: « استبد بفضول السكان هذا الغريب الذي لا يفصح عن هويته بعد مرور أزيد من عشرين على استقراره في حيينا، فالكل يريد أن يعرف مهنته على الأقل (...) ولماذا اختار السكن في هذا الوسط الشعبي؟»(8).
وفي ضوء ذلك، يبدو أن اشتغال الفضاء المكاني في هذا النص يقوم على بناء نظري تستند إليه ثنائيات وتقاطبات مكانية متقابلة، بالنظر إلى» الخصوبة التي يتضمنها التقاطب كمفهوم وكإجراء عند الاشتغال به لحل الإشكالات التي تطرأ عند البحث في بناء ودلالة الفضاء»(9) القصصي وفق ما أبرزه دارسو ومنظرو الفضاء السردي( يوري لوتمان/ فيسجربر/ جورج ما توري)، وغيرهم. ولأنها كذلك فهي تحضر هنا، في سياقنا هذا، بصفتها تقاطبات مكانية ذات طبيعة اتصالية تواصلية (داخل/ خارج، منفتح/ منغلق)، بمعنى أن السارد يقدم لنا هذا الحي من خلال نسيج العلاقات شبه المنعدمة التي يقيمها» الجار الغريب» مع أهل الحي، يقول: «وأتصور أنه بدوره كان يحس بما يجري حواليه، حيث كان يلاحظ العيون المتتبعة لأثره من خلال النوافذ التي كانت تفتح بطريقة آلية ومضبوطة حين ظهوره، وبالأخص النافذة القريبة من منزله.» (10) كما يقوم على ثنائيات ضدية ذات معيار ضوئي زمني يروم رصد حركة» الجار الغريب» في الزمن والمكان معاً، يقول السارد عن حركته في الزمن :» كان يغادر بيته أحياناً في ساعات متأخرة من الليل، وفي أحايين أخرى يعود إليه في الساعات الأولى من كل صباح، ولكي يثير عن قصد أو عن غير قصد من يراقبه، وهو يعلم ذلك، كان يغير من عاداته، حيث يغادر بيته في الساعات الأولى من كل صباح، ويعود إليه في آخر الليل.» (11) أما عن حركته في بيته، مكان إقامته الذي يقدمه لنا السارد دون أوصاف أو أبعاد سوى توفره على غرف تطل على أحد أزقة الحي منها غرفة النوم التي وجد فيها مشنوقاً، فيقول: «كان بمجرد ما يتجاوز عتبة بيته، تضاء الأضواء دفعة واحدة في كل الغرف المطلة على واجهة الشارع الجانبي من الزقاق وراء الستائر المسدلة، ولا تمر دقائق معدودة حتى تنطفئ في آن واحد، وتبدو أشعة ضوء خافت.»(12)
يضاف إلى ذلك توظيف السارد ثنائية ( الاستمرار/ الانقطاع ) قصد الكشف، في مرحلة أولى، عن الصلة الوطيدة التي تربط المكان القصصي والمعطيات النفسية اللغوية والموضوعاتية التي يضفي عليها الأدب صفة مكانية، وفي مرحلة ثانية، بغية إبراز التحول الذي قد ينجزه المكان في حركة وقائع النص . يقول السارد: «فجأة اختفى الغريب عن الأنظار، ولم يعد يظهر له أثر، ولم تكن هذه أول مرة يختفي فيها، ولو أن وجوده أو عدم وجوده ظل دوماً مثيراً للتساؤل، وما زاد حدته أن قطته البيضاء اشتد مواؤها خلف الباب»(13).
وحيث إن السارد، كما يبدو من خلال ما سبق، لا يكتفي عبر استثماره هذه الثنائيات الضدية بوضع القارئ أمام صور سردية تتميز بصفاتها المكانية المعبرة عن انعدام التوافق بين»الجار الغريب، والفضاء الذي استقر فيه، بل نجده يوظفها، رغم خلوها أحياناً، من أية « صفة مكانية»، بوصفها أدوات لبناء نسق فضاء قائم يتألف من جزئين متكاملين، هما: فضاء( الحي الشعبي) وفضاء( البيت)، والتكامل بينهما واضح، فهناك الأزقة والدروب والاكتظاظ، حيث يفترض أن يلقى الغريب حتفه، لكن يوجد المترصدون والمتربصون الذين تسللوا إلى البيت حيث الأمان، واختفوا في ركن محدد منه هو غرفة النوم التي أجهزوا فيها عليه.
الشخصية في» الجار الغريب»
يطالعنا النص، بداية، بعنوانه المركب من مفردتين، هما: مفردة» الجار» التي تحيل على معنى المجاور المقيم قرب مسكننا، كما تحمل معاني المجير والمستجير للعهد والأمان. ومفردة «الغريب»، التي تشير إلى دلالات البعيد عن وطنه، مثلما توحي بدلالات العجيب وغير المألوف. وحيث إننا سنوظف مفردتي» الشخص» و»الشخصية» بالمدلول نفسه، فالملاحظ أن إيحاءات هذا العنوان/ المفتاح، وهي توجهنا إلى الوجود الغريب لشخص ما في حي من الأحياء السكنية، ستلقي بظلالها على أوصاف وأفعال الشخصية الرئيسة، و كلنا يعلم، أن الأخيرة» كائن من ورق» وعلامة لغوية دالة تقوم على دال هو عبارة عن «بياض دلالي» لا تمتلئ دلالته و لا يبني مدلوله الخاص إلا مع قراءة آخر كلمة من النص، ومن خلال ما يقدم عنها، أي الشخصية الرئيسة، من معلومات وأخبار، أو عبر ما يسند إليها من نعوت وأوصاف وتصنيفات، وأسماء وألقاب. لذا، فما يلفت انتباه القارئ، وفق ما يبدو، هو تكفل السارد بضمير الغائب، بتقديم» الجار الغريب»، ولأنه سارد كلي المعرفة، وعليم بتفاصيل سرده وبواطن شخصياته القصصية، فهو الذي يزودنا، بأسلوب غير مباشر، بالمعلومات والمعطيات والأخبار المتعلقة بهذا» الجار الغريب».
وفي ضوء ذلك، فقد بدا لي أن المعيار الملائم للتعرف على بناء هذه الشخصية يستند إلى ما أسماه» فيليب هامون» المقياس النوعي» الذي يهتم بدراسة مصدر المعلومات المعطاة للقارئ «حول الشخصية، هل تقدمها الشخصية عن نفسها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق التعليقات التي تسوقها الشخصيات الأخرى أو المؤلف.»(14) وتبعا لذلك، يقدم لنا السارد شخص «الجار الغريب» بوصفه رجلاً» أعزب يعيش وحيداً مع قطة بيضاء وسط حي شعبي مليء باللغط والنميمة والإشاعات»، كما أنه كان» هادئ الطبع، لا يحدث ضجيجاً في سكناه» و»نادراً ما كان يطل من وراء نوافذه المسدلة الستائر»، فضلاً عن كونه» عديم الزيارة منقطع عن عالم جيرانه، لا يساعد أحداً ولا يطلب مساعدة أحد. لا يشتكي ممن يريد إيذاءه عن عمد، ولا يسعى لإيذاء أحد، مما جعله في نظرهم مخيفاً غريب الأطوار، لا لشيء إلا لأنه لا يكلم أحداً ولا يرغب في معاشرة أحد. كانت الكتب والجرائد التي يتأبطها ترفع من شأنه في نظر البعض.» و» لم يكن يزيل نظارته السوداء ليلاً ونهاراً، مما كان يضفي عليه غموضاً أشد،» كما ظل في» وجوده أو عدم وجوده(...) دوماً مثيراً للتساؤل،» إلى أن وجد ذات عشية» مشنوقاً بحبل وسط غرفة نومه.»
هكذا، تبدو شخصية» الجار الغريب» ملتبسة الملامح مرهوبة الجانب، وغير متوافقة مع أهل الحي، ذلك بأنها لا تعيش العزلة المطلقة ولكنها» تعيش على هواها»، وتنشد حريتها، رغم أنها كانت تلاحظ» العيون المتتبعة لأثرها»، كما كانت لها عاداتها التي لا تحيد عنها، سواء تعلق الأمر بتغيير مواعيد الدخول والخروج أو الحضور والغياب، فضلاً عن أسلوب إنارته غرف بيته دفعة واحدة أو إطفاؤها جميعها إلا من غرفة واحدة يظل ضوؤها خافتاً، بيد أنه وجد، أي شخص الرجل الغريب، مشنوقاً في غرفة نومه. لذا، فأمام هذا الأمر المهول/ الشنق الذي يدل عموماً على عقاب المذنب، وأمام تطور الحدث الذي لا يستقيم دون حضور شخصيات معارضة أو مضادة للشخصية الرئيسة، فالملاحظ أن السارد س»يتابعها شخصية شخصية ليعرض علاقتها»(15) بالحي والجار الغريب معاً. غير أن قراءتنا تقديم السارد هذه الشخصيات ستكون رديئة إذا ما نظرنا إليه، أي تقديمها، على أنه مجرد عرض وتتبع، إذ أن الأمر، فيما يبدو، أمر رؤية أكثر حميمية، وأمر رؤية تتعلق بعلاقة وجودية تتأطر في الواقع الأصلي من خلال علاقة الأنا بالآخر.
وفي هذا المنحى، فقد طرح السارد، فضلاً عن كونه هو الذي ينقل الحكاية ويدير وقائعها، علاقته بالجار الغريب بوصفه» الوحيد الذي يتجرأ على تحيته»، كما صرح برغبته الدفينة في مرافقته» والدخول في صحبته»، وإذا كانت هذه الرغبة تعبر عن بحث السارد، شأنه في ذلك شأن سكان الحي، عن علاقة بآخر متحرر من جل العلاقات، آخر يتجنبهم ولا يرغب معاشرتهم، فيعيش حريته» الفردية المطلقة» ،»على هواه». فالملاحظ، أن هذا الطرح يشير إلى المنهل الفكري للمؤلف المتمثل في الفلسفة الوجودية. ذلك بأن» سارتر يرى أن»الجحيم هو الآخر». و أن «خطيئتي الأصلية هي وجود الآخر».[ كما أنه، أي سارتر] يمثل اتجاهاً وجودياً يرى» أن جميع المحاولات التي تبذل للوصول إلى وجود أصيل مع الآخرين هي محاولات محكوم عليها بالفشل.»(16) و لأننا نتعامل مع نص» الجار الغريب» بوصفه عملاً قصصياً لا بصفته تعبيراً عن نموذج واقعي يحيا بين ظهرانينا، فلا شك أننا نتعامل مع حضور الآخرين( الجارة، المناضل اليساري، عباس المدمن على المخدرات، الطالبة، قريب السارد العاطل عن العمل، الحارس الليلي، الباعقلي البقال، مدام سوزان) إضافة إلى السارد، باعتبارهم جميعهم ذواتاً/» ذاتاً متجذرة في الحياة اليومية، ذاتاً متكلمة، ممارسة لأفعال منطلقة منها»(17).
يقول السارد عن موقف المناضل اليساري من الرجل الغريب،» لقد سبق لأحد شبان الحي، وينتمي إلى حركة يسارية متطرفة، أن حذَّر رفاقه وهو على اقتناع تام بأن الرجل مخبر في جهاز البوليس السري، لباسه ونظارته السوداء وحركاته المشبوهة تؤكد ذلك.»(18) أما عن موقف عباس المدمن فيقول على لسانه:» عندي معلومات صحيحة جداً، إنه عضو في شبكة دولية لبيع المخدرات، لباسه ونظارته السوداء لا تختلف عن ذلك النوع من الرجال الذين نشاهدهم في أفلام المافيا.»(19) بينما ينقل لنا بأسلوب مباشر كلام قريبهم العاطل عن العمل الذي يرى في الرجل الغريب مهرباً خطيراً» يهرب الشبان إلى الضفة الأخرى مقابل مبالغ مالية.»(20) وهكذا نتابع مع السارد أنه في الوقت الذي يذهب فيه رأي» الحارس الليلي» إلى اتهام الرجل الغريب باحتراف السرقة من خلال ما نقله لنا على لسانه بقوله:» لقد شاهدته قبل أن يختفي يحمل حقيبة ثقيلة في ساعة متأخرة من الليل، ولم يتمكن من إيصالها إلى منزله إلا بمشقة الأنفس، وقد رفض أن أساعده في حملها، (21) سيذهب رأي البقال الباعقلي فيه إلى إدانته بتزوير» الأوراق النقدية»(22). وهو رأي يخالف ما ذهبت إليه مدام سوزان، التي رأت في الرجل الغريب جاسوساً» يشتغل لحساب دولة أجنبية»(23).
وفي كل ذلك، إن هذه الذوات/ الذات تكشف، حسب بول ريكور،» بعداً مهما هو القدرة على السرد( بوصفه) الصيغة اللغوية التي نتعامل فيها مع الزمان المعيش، إذ العلاقة الأصلية مع الزمان هي علاقة سردية»،(24) ولأنها كذلك، فإن الزمن الإنساني، يضيف الباحث،» يأتي الخطاب من خلال القصة، وبفضل القدرة على وضع الأحداث في حبكة قصصية متماسكة ينتج الإنسان هويته السردية الفردية وكذلك هويته الجماعية»(25).
يبدو لي من هذه الزاوية، أن مواقف الشخصيات التي وظفها السارد في تحديد هوية «الجار الغريب» وتأويل شخصيته تلتقي في جعل الأخيرة متعددة القراءات، إذ تولد لدى القارئ مزيداً من التساؤلات المرتبطة بهوية هذا» الجار الغريب»، فهل نحن أمام شخص يستحق الإدانة، بالنظر لغرابة أطواره؟، أم أمام شخص ليس أكثر من كونه «ضحية للمواضعات الاجتماعية»(26)، التي تتراوح بين إثارة السخرية أو استجداء الشفقة؟ أو نحن أمام كليهما معاً؟ فالجار الغريب، بوصفه غيراً/ آخر بالنسبة لي» أنا»، يشبه سائر الجيران ولا يشبههم، ذلك بأن قراءته تمنحني مسافة وإحساساً بسريته وغموضه، لكنه ذلك الغموض الذي يكشف لي جانباً من أسرار ذاتي التي تجهلها ذاتي، والذي يساعدني، كذلك، في إعادة تحديد وتجديد ذاتي.
---------------------------------------
1 نعتمد، في هذه الدراسة، النص القصصي الوارد في: أنطولوجيا القصة القصيرة المغربية، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة المناهل، 2005، ص، 8084.
2 - نصوص الشكلانيين الروس، نظرية المنهج الشكلي، ترجمة، الخطيب ابراهيم، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1،1982، ص، 134
3 - قصة الجار الغريب، في أنطولوجيا القصة القصيرة المغربية،(م.س)، ص، 80.
4 - نفسه، ص، 81.
5 مرتاض، عبد الماك :في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، العدد 240، ص، 155
6 - باشلار، غاستون : جماليات المكان، ترجمة، هلسا، غالب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1984، ص،9
8 - قصة الجار الغريب في أنظولوجيا القصة المغربية القصيرة، ( م.س)، ص،81
9 - بحراوي، حسن : بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بدون طبعة أو تاريخ، ص، 35
10 - قصة الجار الغريب في أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة، ( م.س)، ص،81
11 - قصة الجار الغريب في أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة، ( م.س)، ص،80
12 - نفسه، ص،80
13 - نفسه، ص،81
14 بجراوي، حسن : بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، دون طبعة أو تاريخ، ص،224
15 - روحي الفيصل، سمر : قراءات في تجربة روائية، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية اللاذقية، ط1، 1993، ص، 98
16 - الماضي، شكري عزيز : أنماط الرواية العربية الجديدة، ص،175
17- المنظمة العربية للترجمة ترجمة وتقديم وتعليق،ريناني جورج، ظهر الغلاف ، الطبعة 1، بيروت، تشرين2 ريكور، بول، الذات عينها كآخر.
18 - قصة الجار الغريب في: أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة،( م.س )، ص، 81
19 - نفسه، ص،81
20 - نفسه، ص، 82
21- نفسه، ص، 82
22 - قصة الجار الغريب في: أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة، ( م. س)، ص، 83
23 - نفسه، ص، 84
24- ريكور، بول، الذات عينها كآخر( م.س)، الواجهة الخلفية للكتاب
25 ريكور، بول، الذات عينها كآخر( م.س)، الواجهة الخلفية للكتاب
26 - فريس، إيمانويل، موراليس، برنار :قضايا أدبية عامة، آفاق جديدة في نظرية الأدب، ترجمة، زيتوني، لطيف،القراءة... قراءة الآخر(مقال)، عالم المعرفة، العدد 300، فبراير 2004،ص، 172


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.