يُحكى أنّ حمامةً وكلبةً التَقَتَا في معتقلٍ (=تزممارت) في المغربِ الأقصى. وقد عاشَتَا هنالك رَدْحاً من الزّمن، عَرَفَتَا فيه أحد الأوجه الأكثر مقتاً وخبثا لبني البشر.. رَأَتَا كيف قَتَلَ أبناء آدم وحوّاء، إخوانهم في الدّينِ، وفي الوطنِ، وفي الإنسانيةِ بغيرِ حقٍّ، وبطرقٍ مقيتة. بعد حينٍ من الدّهر، وفي عالمٍ غير العالمِ الذي يعيشُ فيه الحيوانُ الإنسانيُّ بمعيةِ باقي الحيوانات الأخرى، التقت الحمامةُ بالكلبةِ، فدار الحوارُ التّالي بينهما. تقولُ الحمامةُ للكلبةِ، وقد صوّبت عينيها ناحيةِ الأخيرة؛ «هِلْدَا» هل تذكرتِني أم نسيتِ؟ أنا الحمامةُ التي جِئتكِ يوم كنتِ مسجونةً بذلك المعتقل، ذالك المكان الذي حُبس فيه نفرٌ من البشر.. أنا التي حكيتِ لي معاناتكِ ومعاناةِ السّجناء. «هِلدا» هل تذكرتِني أم نسيتِ؟ تنظرُ الكلبةُ إلى الحمامةِ ملياَّ، وعلى وجهِهَا ارتسمت دهشةٌ وحُزنٌ؛ دهشةٌ للقاءِ صّديقٍ قديم، وحزنٌ لتذكرِ ماضٍ حزين. ماضٍ عرفت فيه شَنَاءة، وخُبث، ودَنَاءة بني البشر. ماضٍ رَأَت فيهِ كيف يرمي الآدميُّ بأخيهِ الآدميِّ في الحُفَرِ حياًّ، وكيف يُنكِّل به تنكيلا.. آدميٌّ يقتل بدمٍ باردٍ، ويَتَفَنَّن في تعذيبِ أخيه الآدمي.. تستمرُّ الكلبةُ في النَّظرِ دون أن تَنْبِسَ ببنتِ شفة. تَخطو الحمامةُ خطوتينِ نحو صديقتها القديمة، وتقول: «هِلدا».. هل تذكرين عَشيةَ حفرتِ في ساحةِ المعتقلِ، فوجدتِ عظاماً بشرية؟ هل تذكرين كيف كانت الهياكلُ العظمية مرميةً؟ وكيف كانت ملقاةً على بعضها البعض كأنها متلاشياتٌ فُرغ من استعمالها؟ هل تذكرتِ كيف بكيتِ لحالِ الذين دُفنوا وحال الذين على وشك أن يُدفنوا؟ هل تذكرين السّجناء النّصف الأحياء؟ هل تذكرين تأوههم، صراخهم، نحيبهم...؟ وهل تذكرين صباح دخلتُ عليهم، وعدتُ إليكِ مفزوعةً، مرتعبةً، من شدةِ اندهاشي للصورةِ التي غدا عليها الأسرى؟ لقد قلقنا لحالهم يومئذٍ، وخفنا عليهم من موتٍ مرتقبٍ. آهٍ، لقد كان الموت يمثلهم لهم ساعتئذٍ رحمةً وخلاصاً من عذابٍ شديدٍ مقيتٍ، وأعلمُ أنه لولا ثقتهم بربهم، وقوة عزيمتهم، لسلموا روحهم لبارئها دون تردّد. «هلدا» تذكرين..؟ بربّكِ قولي.. ما بكِ لا تجيبين!!؟ قولي لي أيةُ ملةٍ وأيُّ دين لهؤلاء؟ أولم يقل لهم ربُّ العالمين «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً»؟ هل تعلمين «هلدا» أني رأيتُ الذين عَذَّبوا الأسرى ورموهم في الحفرِ يتقدمون الصفوف للصلاة!!؟ أتصدقين!!؟ لقد كانوا خاشعين!!؟ أيّةُ صلاةٍ وأيُّ خشوعٍ لهؤلاءِ الظّالمين الجائرين؟ هل تذكرين أني وجدتُ فيهم المشلولَ، والمكلولَ، والمريضَ..؟ لم يكونوا يشبهون الإنسان الذي عرفناه وعشنا معه. كان الواحدُ منهم يُقَفْقِفُ من شدةِ الزّمهرير، تُسمع أسنانُهُ وهي تَصْطَك من شدّة البردِ، والآخر يمشي معقوفاً من طولِ حبسهِ في الغار... لقد كانوا جِيّاع، مهلوكين، كانوا عن عبارة عن هياكلٍ عظمية. «هلدا» فلتنظري إليّ.. بربكّ أجيبيني، وقولي لي ماذا في نظركِ فعلوا حتى فُعل بهم ما فُعل؟ قولي لي كيف يَستخلف ربُّ العالمين البشر في الأرض ويفعلون ما فعلوا؟ ألم يجعل في قلوبهم رحمة؟ وأين رحمته من كلِّ هذا؟ ما السرُّ وما الحكمة في غيابِ رحمته عن الأسرى المهلوكين؟ ماذا في نظركِ الآنَ فعلوا؟ هل إلى عائلاتهم عادوا؟ هل سَلِموا؟ هل من ذلك الجحيم رُحِّلوا؟ هل قُتلوا؟ بربك قولي لي ماذا فعلوا؟ تستمر الكلبة «هلدا» في السُّكات.. تَهْرِش بقائما الخلفيِّ تحت أدنها اليسرى، وتستدير جانبا، تاركة الحمامة على يمينها. تسقُطُ دمعتان من عينيها.. تقول للحمامةِ بعد صمتها الطّويل: نعم، نعم يا فرج، أتذكر كل لحظةٍ قضيتها في ذالك الجحيم.. أتذكر الوجوه المقيتة، الخبيثة... أتذكر وجوه الذين كانوا في النعيم يبيتون، وأتذكر وجوه الذين كانوا من الحيفِ، والقهرِ، والعذابِ يعانون. ثم أردفت الكلبة بعد هنيهة من السّكوت: أتعلمين يا فرج، أتمنى إن بُعثت روحي في جسدٍ بشريٍّ، أن لا تُبعث مع أولئكَ الذين عرفتهم في ذلك البلد، فلتُبعث روحي في أي منطقةٍ من الكون، إلا تلك المنطقة. فردت الحمامة مجيبةً: لا يا «هلدا» فلتُبعث روحك في تلك الأرض، وقُصِّ عليهم الحكايةَ، قولي لهم، إنه في زمنٍ مضى، قُتل على أرضكم أناس عديدون، ذنبهم الوحيد أن القدر ساقهم للدفاع عن الوطن.