رحل إلى دار البقاء الكاتب المغربي والناقد التشكيلي محمد البحتوري، الذي نشر عدة قصص ونصوص روائية وتشكيلية. بحث محمد البحتوري في موضوع بوزغيبة وتعمق في خصائص هذه النبتة ووظائفها البيولوجية والفيزيولوجية، كما ر كز على رمزية الاستبطان والتوطين لبوزغيبة الأيقونة. وكشهادة حية يمكن الإفصاح عنها بكل صدق وأمانة، كتكريم «بوست مورتيم» له، نعتبر مؤلفه غير المنشور هذا أحسن ما كتب عن التجربة البوزغيبية على الإطلاق. فمن شيم هذا الناقد الفني الفذ التواضع والعطاء الخصب. فهو يكتب بسخاء ولا ينتظر المقابل. حينما أتاني بالفصل الذي خصه لتجربتي المتواضعة بهرت بحجم ما تم تأليفه، وكذلك بعمق العبارات المستعملة. ضربنا موعدا للقاء في مقهى تمارة بالرباط، بعد أسابيع من اللحظات التي جمعتنا بمعرض الكتاب الذي أقيم سنة 2009، والذي غادرته في حالة تشنج قصوى. عند جلوسنا حول الطاولة، كان يبدو على المرحوم كالنشاط والحيوية والتفاؤل المفرط، كلما شكوت من القنوط والضجر والركوض المهيمن على الساحة الإعلامية والفنية، ينصحني بعدم الاستسلام لليأس. كانت المفاجأة سارة لأني لم أكن اعرف انه بصدد تأليف كتاب مونوغرافي حول فنانين تشكيليين اختار أسماءهم بدقة. ونظرا لعدد الصفحات التي خصها لبوزغيبة، قلت له: «يا صديقي العزيز، هذا ليس فصلا وإنما مؤلف بكأمله. يوجد ما يكفي لنشر كتاب حول بوزغيبة». فأجابني: «افعل ما تراه مناسبا»، وترك لي الأوراق المخطوطة وهي تحمل بعض التصحيحات. بعدها جاء لاستشارتي في بعض النقط تتعلق بمعلومات إضافية لإغناء المؤلف. كذلك لم أكن أتوقع كل تلك الغزارة في المعاني والألفاظ المستعملة، لأن من حسنات تدريس الفلسفة امتلاك وترويض المفردات ذات المغزى العميق. وبفعل بوزغيبة، تحول البحتوري الناقد إلى «بوطانيسيان» (عالم نباتات) متمرس، يصف الأشياء بدقة، ويقلب جدع هذه النبتة الغرائبية تحت مجهره. تارة يصفها بشاعرية أخاذة، وتارة يتحدث عنها كعالم فيزيولوجي متمكن من أدواته التحليلية، التفكيكية والتركيبية. هو الذي قال لي باعتزاز وفخر إنه كان في الطفولة يشتري كتبه الأولى بثمن اشتغاله في تنقية حقول مزروعات القمح أو الشعير. يعرف حق المعرفة ما تسببه نبتة بوزغيبة للمزارعين من خراب، وللنكَايات (بتثليث نقط الكاف) من محن. لذلك أصبحت المقاربة جديرة بالاهتمام، وكان التناول متعدد الأبعاد والمرامي، عميق الجدوى وبليغ النسق. كعنوان لبحثه المتميز اقترح علي: «إطلالة على عالم عبد الرزاق رزاق»، لكنني فضلت إضافة عنوان آخر يختزل ما تم تدوينه بقلمه المرح: «بوزغيبة ككائن بيولوجي وكأيقونة». فرحب بالفكرة، هو الذي كتب في مقاربته: «فرحي مرده لكون هذا المتمرد في زيغه الفني خارج السكك المسكوكة، استطاع أن يتمكن من توطين وتجذير تجربته الفنية، بعدما اكشتف أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو ضرورة ربطها بنبتة طبيعية مغربية قحة لها جذور عميقة في التربة المغربية عبر تاريخها. فبقدر ما لها من مظاهر جمالية فاتنة، ولمعان اخضرار أوراقها، وسحر روعة ازدواجية أزهارها، بيضاء في نوع، زرقاء في نوع آخر، زرقة شفافة وحالمة، بقدر ما لها من مكائد مؤذية وأشرار في الخفاء. فإذن هي تبطن أفعال الإذاية وتظهر أفعال المتعة البصرية. وهذه مجرد مظاهر خداع لهذا العالم المحيط بها، تظهر عكس ما تبطن، لذا اكتشفها عبد الرزق الفنان متأهلة برشد ولياقة وجودية فائقة، لأن تكون المرايا العاكسة لتعدد وجوه وأقنعة المسلكيات التي تسطو وتهيمن على طقوس عبور حياة أرضنا في جريانه المتلخبط والمدوخ. ثم استنبطها بذكاء عبقري بعدما اقتنصها عبر استقراء للطبيعة والواقع. بمثل هذه التجربة يتأتى لفننا أن يمسك بخصائص هويتنا في تأسيسه وتكونه من داخله وتطوره من نباتاته ومنابع مشاربه، كما حصل في تأسيس الفن الأوربي الحديث حين أكد الفنان ارتباطه بطبيعته وأرضه. ولا داعي هنا لأكرر ما قلته مرارا عن الدور الذي لعبته في هذا الشأن لوحة مانيه «غذاء فوق الشعب» وهذا ما أوحى لي بنسق هذه المقاربة. فبتوظيف أمثال هذا الرمز المغربي المتوغل في عمق طبيعتنا، وحياة ومعيشة السواد الأعظم من أناسنا إلى حد غدت كثير من أنماط مظاهر هذه الحياة خاضعة لما يخفي ويبطن وما يظهر، يستطيع الإبداع المغربي أن يمسك بضالته ويمتلك ناصية تبلور وتجليات مرامي وظائفه، والخيل الخير في نواصيها (...) فسرت سابقا مرد فرحي وارتباكي، أما مرد حزني فإلى سطوة اللامبالاة وعدم الاهتمام حيال هذه التجربة الصادقة والمتجذرة والموطنة ومثيلاتها الجادة، وهذا من شأنه أن يسبب الإحساس بالإحباط لدى الفنانين الجادين بكل إخلاص، سيما وأن الضجيج أحيانا يتصاعد حول التافه والغث، ويكون نابعا من إيلاف الإخوانيات والحواريين، ويكون النفخ المجاني». (*) فنان تشكيلي مؤسس جائزة «بوزغيبة» السنوية للفكاهة التي منحت هذه السنة لرسام ومؤلف القصص المصورة كلود دريب.