إن قولنا بتناسق وصفاءٍ مطلقٍ لبنيان ما هو ضرب من الكذب، المتمثل في محاولة التستر على تفاعل موضوعي وطبيعي، تؤسسه عناصر لا يخطئ التنافر والتضاد طريقهما إليها، وبما أن فتنة الكون، تتمظهر في التعدد اللانهائي لعناصره، فإن التعدد ذاته، يحضر مرفقا، باختلافه الكبير، إذ كلما حضر الاختلاف، إلا وتم تجاوز الحديث عن تناسق مثالي ويوتوبي. ثمة أوهام أنيقة تصاغ عادة حول الأشكال الصافية والتي لا تقل هي أيضا أناقة عنها بصرف النظر عن المجالات التي تنتمي إليها هذه الأشكال. طبعا، لا أحد يجادل بأن الصفاء مطلب أساسي ومشروع لكن على حساب ماذا وعلى حساب من؟ وفي نفس السياق يمكن أن نتساءل متلاعن دلالة امتلاك الخطاب لجمالية صافية؟ خاصة حينما يكون متمحورا حول ظاهرة حضارية، مشوبة بكل أنواع وأصناف الأعطاب الثقافية والاجتماعية والسياسية، ليس من منطلق اعتبارها سمة من سمات النقصان، الناتج عن سوء التدبير، مادام العطب في حد ذاته مكونا مركزيا من مكونات الوجود، ولكن باعتبارها لحظة من لحظات البحث أو البناء، الواردة في سياق يستلزم مساءلتها والبحث في عللها ومسبباتها. إن الإشارة إلى العطب هي في الأصل، تنبيه إلى حضور نسق غريب، ودخيل عن النسق الطبيعي الذي اندمج فيه خلسة بصيغة من الصيغ. من هنا يحيلنا العطب على واقع انحشار إيقاعين منفصلين ومتنافرين ومتباعدين، في إيقاع واحد مشترك، أي على دمج ما يتعذر دمجه كيميائيا وفيزيائيا ودلاليا، وهو ما يستوجب فصل هذه العناصر عن بعضها من جديد، قصد تناول خصوصية كل واحدة منها على حدة، في أفق استشراف نسقها الملائم، والمتكامل، بما تعنيه هذا التكامل من انسجام وتناغم، يوحيان بتحقق فعل الصفاء، إلى جانب إيحائهما بحضور ذلك الصمت، الذي لا يكسره سوى التنافر الناتج عن تداخل أجساد متعارضة، ومتباينة. والحال أن القول بإمكانية هذا الفصل التام، ضرب من المغالطات المنهجية التي تضاعف من مسافات امتدادها في فضاءات اليوتوبيا المنفصلة عن العمق العقلاني، الذي ينبغي أن يكون المكان الملائم لتموضع كل ممارسة، كل حكم، وكل تقييم، الشيء الذي يتعذر إدراكه بعيدا عن الاعتراف بحتمية تلك المزاوجة الحتمية، القائمة عمليا بين ما تنافر وتنابذ من عناصر، ولكن طبعا ضمن الحدود التي تتسنى فيها قابلية تبادل الإنصات المفضي إلى شرط الحوار والتفاهم بمعنى أن يظل هذا التنافر، وهذا التعارض، حاضرين في الحدود المؤدية لإنتاج دلالة مستوفية لشروط استيعابها وتلقيها، كما هي مستوفية لشروط صياغة خطاب موجه للبحث في إشكال معين ذي صلة بأسئلة الكائن، علما بأن التنافر حينما يتجاوز حدوده المعقولة والموضوعية، يصبح شكلا من أشكال التعمية، والتشويش المبيت والخلط. وأيضا سببا من أسباب انصراف الاهتمام عن تفقد أية وجهة محتملة، يمكن أن يستضيفنا القول في رحاباتها. إن هاجس صياغة خطاب نموذجي، من حيث صفاؤه ونقاؤه، لا يعدو أن يكون ضربا ضروب من التعمية والتعويم، والتخصص في فبركة أوهام سعيدة بتنضيد لَبِناتها المتراصة، حول هُوِيّات آيلة لتداعيها وانهيارها. إن الخطاب في هذا الإطار، يكون مفتقرا إلى أية سمة من سماته الدالة على خصوصيته. إنه يصبح ملتبسا، وغائما إلى أقصى حدود اللآجدوى. وطبعا، لا يتعلق الأمر هنا بالدعوة إلى تحقيق نوع من التطابق، بين الموضوع وبين لغته الواصفة، بقدر ما يتعلق بضرورة التخلص من تلك الخطابات الجاهزة والمسكوكة، والمعدة سلفا للتواجد في جميع المقامات، وكافة السياقات من أجل اجتراح خطاب مضاد، يحظى بقابليته الكبيرة، للتفاعل الحي والخلاق،مع مجموع ما يتمحور حوله من قضايا وإشكالات . من المؤكد أننا لن نتنكر لإمكانية حضور بِناءٍ عقلاني، يكون على درجة عالية من التناسق والدقة والصرامة الهندسية، الخالية من أي تساؤل معَدٍٍّ لاستهداف ما يحدث أن يكون غامضا وملتبسا فيه، بدليل أن الهندسة القوطية، الموغلة في صرامتها، والمفرطة في دقة بنائها، تفوح برائحة قهر كبير، كما تنبعث منها أصداء صرخات مدوية، هي صرخات الألم الهادر، لتلك الأرواح الرمزية التي شجت جماجمها قسوة الآخر، حيث سيكون من العبث الإمعان في البحث عن خرافة تناسق، عارٍ من الشبهة والالتباس. لذلك فإن قولنا بتناسق وصفاءٍ مطلقٍ لبنيان ما، هو ضرب من الكذب، المتمثل في محاولة التستر على تفاعل موضوعي وطبيعي، تؤسسه عناصر لا يخطئ التنافر والتضاد طريقهما إليها، وبما أن فتنة الكون، تتمظهر في التعدد اللانهائي لعناصره، فإن التعدد ذاته، يحضر مرفقا، باختلافه الكبير، إذ كلما حضر الاختلاف، إلا وتم تجاوز الحديث عن تناسق مثالي ويوتوبي، وتَمَّ أيضا طيُّ صفحة الصفاء والأناقة المتحذلقة، ذات البعد الأحادي، حيث ما من أحادي في بعده، إلا وهو مسطح فيزيائيا، ودلاليا، وخاضع حتما لأناقة الاختزال، التي تحوله إلى مجرد حجاب، لا أكثر ولا أقل.. إن الصفاء الكاذب، هو ذلك الذي يتخلص من سؤال الكثرة، ومن هواجسها، كما يتخلص من واقع حال البناء، بمحوه و نفي أبعاده، من خلال تنظيفه/تجريده، من أهم عناصره التي يمكن أن تتخذ شكل ما يعتبره البعض تشوهات في حين أن هذه التشوهات، هي مصدر جماليته، ومصدر قوته. إنها بعض من ثوابته الأساسية والمركزية، حيث يقتضي الأمر إعادة النظر في الدلالة، وفي منطق التقييم. ولعل ما يلاحظ في هذا السياق، هو أن نسبة هائلة من الخطابات، تلح على التخلص من تلك((الزوائد ))العالقة بها، من جراء طول إقامتها على الأرضية التي اشتغلت بها وعليها. وهو تخلص يطمح إلى امتلاك الحد الأقصى من الجاذبية التي يُتوقع منها إثارة فضول الآخر، وبالتالي، انتزاع اعترافه وتقديره. إلا أن هذه الخطابات ،وهي في غمرة ممارساتها تلك، تكون بصدد قطع صلتها بالأرضية التي اشتغلت عليها ،لتظل عارية أو تكاد، من أية خصوصية تذكر. إن التلقي الذي يطمئن إلى صفاء وأناقة هذه الخطابات، سيكون هو أيضا محروما من امتلاك أي رد فعل، يسمح له باختراقها، أو باعتمادها وسيطا منهجيا للمقارنة والمساءلة، نتيجة إسقاطه للجانب الإشكالي عنها، والذي يعتبر في حد ذاته مكونا أساسيا وجوهريا من مكوناتها، كما سيحولها في نهاية المطاف إلى مجرد وثيقة باردة، بفعل تجردها من كل المتاعب النظرية المؤرقة، التي تحرض البحث عادة على شحذ مخالبه وأنيابه، كي يغرسها في جسد الفريسة. إنها بهذا المعنى ليست أكثر من كتابة ملساء، خالية من نتوءات التعرية التي تحدثها صروف التحولات الاجتماعية والتاريخية. إنها بيضاء، تغري الناظر بإدامة افتتانه بها، إلا أنها، وفي المقابل خالية تماما من جمالية وجدل التوترات التي تتألق فيها الحيوية الخلاقة لمكابدات الشطب والتعديل. إن محاولة إعادة بناء زمن الخطاب أو تجديده تقوم مبدئيا على مبدأ ضبط وفهم العناصر المكونة له، وهي عملية تنتمي من حيث ديناميتها إلى تلك الأرضية المحفوفة بمزالقها، وبانحرافاتها المحتملة، حيث ينصب التساؤل حول ما إذا كانت هذه العناصر منتمية لأجنحة البناء أم أجنحة الهدم أو لهما معا. قد يعتبر البعض أن التركيز على عناصر البناء هو المطلب الأول والأخير. إذ به ومن خلاله، قد يتحقق فعل صياغة البدائل، كما قد تتوهج في تضاعيفه الاقتراحات الحقيقية المؤدية إلى وضع أرضية ممكنة للبناء، ذلك أن الخوض في عناصر الهدم، قد يجعلها تستأثر بالمكان، لتساهم في تصعيد حالة التوقع الغائم والمتوجس، فضلا عن كونها تؤدي إلى تشحيب عناصر البناء، في حين يرى البعض الآخر أن الخوض في عناصر الهدم ضروري لأنه قد يحفزنا على تفكيك آلية اشتغالها ، غير أن عين العقل تدعونا لإعادة النظر في المفهومين معا، وليس لاختيار أحدهما على حساب تهميش الآخر. إن إعادة النظر فيهما معا، تسمح لنا بالتخلص من سلطة الأحكام القيمية، عبر تفكيكها وإخضاعها للتحليل المنطقي، المستمد من صلب التوجهات الواقعية. فمن هذا المنظور فقط،سوف يصبح كل من مكون الهدم والبناء مُعَدًّا للتفاعل والتكامل والتحاور، بصيغ جديدة ومغايرة، حيث تتداعى الحدود الفاصلة بين الأبيض والأسود، أو تكاد. لذلك فإن العبرة ليست بتبني اختيارات جاهزة ومسبقة لهذه العناصر، بل في دمجها ضمن سياقاتها التكاملية والتفاعلية الواعدة بانتظاراتها، وهو أفق يتطلب تحرير الكلام من ثوابت لغاته، تحرير الإنصات، وتحرير مخيلة العقل، تحرير المؤسسات من جحيم بؤسها، ومن أعطابها المزمنة، تحرير الكتابة من أوهام القناعات المتخشبة، وتلافي أخطاء القياسات الساذجة، التي غالبا ما تسفر عن نتائج من جنسها. تأسيسا عليه، يمكن القول إن الأشكال الصافية هي تلك التي لم تولد بعد، والتي لا تزال محتفظة بنقائها الأولاني الذي لم يتعرض بعد لدمغة العبور، باعتبار أن العبور هو مصدر تلوين الصفاء بإيقاع حيوية الأثر، أي بإيقاعات الحياة، بما هي موطن تقاطع الشكل باختبارات الكينونة وتحولاتها.