أجمع المتتبعون للشأن السياسي الفرنسي، ومعهم جل المحللين، أن نتائج الدور الأول من الانتخابات الجهوية التي أجريت أول أمس الأحد تشكل «صدمة» في بلد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن، بلاد الأنوار والحرية والمساواة والأخوة. ذلك أن الجبهة الوطنية، الحزب اليميني المتطرف الحامل للواء اللاتسامح ونبذ الآخر والانغلاق على الذات حصد المرتبة الأولى على المستوى الوطني، واحتل الصدارة في ست جهات. وإذا كان البعض قد قارن هذه النتائج مع «زلزال» رئاسيات 2002 حين وصل زعيم الجبهة حينذاك، جان ماري لوبين، إلى الدور الثاني مقصيا المرشح الاشتراكي، فإن المقارنة تبدو متسرعة إذ لم يكن أحد يتوقع «زلزال» 2002، بينما الجميع كان يتنبأ ب»صدمة» الأحد 6 دجنبر الجاري نظرا للانتعاش الذي يعرفه الفكر اليميني المتطرف في فرنسا، وتعبيره الحزبي، بفعل تراكم عدة عوامل مجتمعية ملائمة له. وبمجرد الإعلان عن النتائج الأولية، بادر الحزب الاشتراكي الفرنسي، على لسان كاتبه الأول، جان- كريستوف كامباديليس إلى الالتزام بأنه قرر سحب لائحة مرشحيه في جهتين على الأقل خلال الدور الثاني من الاستحقاق الجهوي المزمع تنظيمه يوم الاحد المقبل، قصد «تشكيل سد جمهوري» هدفه أن لا تسقط المناطق المعنية «حيث لا يتقدم اليسار على اليمين (الجمهوري)» بيد اليمين المتطرف. هكذا إذن، وبينما تمترس اليمين الجمهوري الفرنسي (الجمهوريون)، الذي يتزعمه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، خلف يافطة «لا هذا ولا ذاك» التي تعني رفض أي «اندماج» مع الاشتراكيين أو «سحب» للوائح الحزب في الجهات حيث يتوفر أعضاء تنظيم مارين لوبين على حظوظ للفوز في الدور الثاني، نجد أن الاشتراكيين فضلوا «التضحية الكبيرة» بتمثيليتهم في المجلسين الجهويين المعنيين اللذين سيغيبون عن عضويتهما طوال خمس سنوات، بدل التضحية بقيم الجمهورية ومبادئها. وبالفعل، ومقابل البراغماتية السياسوية والانتهازية الضيقة التي تبناها ساركوزي والتي تضع تمثيلية الحزب في المجالس الجهوية فوق أي اعتبار آخر، حتى ولو كان الثمن إفساح المجال أمام أعداء القيم المؤسسة للعيش المشترك الفرنسي، أبان الاشتراكيون الفرنسيون عن نبل سياسي كبير حين أعلنوا انسحابهم من السباق حتى لا يعبث اليمين المتطرف بمكاسب فرنسا القيمية، وحتى لا يتمكن أصدقاء مارين لوبين، باسم المسؤولية الجهوية، من تقويض أسس ومبادئ فرنسا الأنوار، فرنسا التعايش والتسامح والاندماج والتعدد. درس بليغ وحكيم قدمه إذن الحزب الاشتراكي الفرنسي رغم مرارة تراجعه الانتخابي، مفاده أن راية الوطن يجب أن تظل دائما مرفرفة أعلى من رايات الانتماءات الحزبية، وأن مصلحة الوطن تفوق كل الحسابات الانتخابية حتى ولو كان مقابلها انعدام التمثيلية الانتخابية. وهو أمر ليس غريبا ولا دخيلا على الفكر والممارسة الاشتراكيين المؤسسين، وعربون جديد على أن البون شاسع بين الأخلاق اليمينية والأخلاق اليسارية، وأن التمييز بينهما يظل قائما رغم مقولة «موت الإيديولوجيات»