شكل إجراء انتخابات تشريعية بالولاياتالمتحدة يوم الثلاثاء 4 نونبر 2014، حدثا مهما في الحياة السياسية الأمريكية، وهي الانتخابات الأخيرة على الصعيد الوطني في الولاياتالمتحدة قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما. وبعد تدني شعبيته إلى نسبة 41 في المائة بحسب استطلاع للرأي نشرته مؤسسة «غالوب»، في آخر استطلاع يؤكد تراجع شعبية أوباما. فقد شكل فوز الجمهوريين في الانتخابات النصفية في الولاياتالمتحدة وسيطرتهم على الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ نكسة كبرى للرئيس باراك أوباما والحزب الديمقراطي، تنذر بمرحلة صعبة من التعايش الذي سينعكس على السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. ويعني انتزاع خصوم أوباما السيطرة على مجلس الشيوخ الذي كان بيد الديموقراطيين منذ 2007، وترسيخ غالبيتهم في مجلس النواب، أن الحزب الجمهوري سيكون هذه المرة قادرا على إملاء أجنداته البرلمانية حتى الانتخابات الرئاسية في 2016. ولا يعرف بعد كيف سيوظف الجمهوريون غالبيتهم في الكونغرس في وقت لا يزال فيه أوباما يمسك بسلطة النقض ولن يوافق على الأرجح على قوانين تقضي على أبرز «منجزات» فترته الرئاسية، بدءا بقانون إصلاح الضمان الصحي الذي يطلق عليه اسم «أوباما كير» قد يمضي الرئيس الاميركي باراك أوباما السنة الأخيرة التي بقيت من حكمه كبطة عرجاء في معركة ضد مجلس نواب يسيطر عليه الجمهوريون, ولكن أيضا ضد مجلس شيوخ جمهوري. وفي الواقع ان البعض من العقول اللامعة مثل الخبير الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل بول كروغمان حاولوا الدفاع عن أداء أوباما, زاعما تحقيقه عددا كبيرا من المنجزات بما فيها الرؤية الثاقبة والجهود الجبارة لإعادة الاقتصاد إلىالوضع الطبيعي بعد الأزمة المالية المريرة لعام 2008, وإصلاح النظام الصحي والخدمات المالية, والعمل على خلق مناصب العمل الجديدة لمكافحة البطالة, والسياسة البيئية ذات الفوائد الكامنة العظيمة, واستغلال الفرص الجديدة التي تتيحها طفرة الاكتشافات النفطية في الولاياتالمتحدة, يمكن أن تُعزى جميعاً لأوباما. الا ان محاولات كروغمان لتلميع صورة إنجازات أوباما الوطنية وجدت من يتصدى لها ويتناولها بالانتقاد من أحد أقرب مستشاريه المقربين, وهو ليون بانيتا في كتابه "المعارك المكلفة". ولم يحدث منذ عهد ريتشارد نيكسون أن وجه هذا العدد الكبير من الأعضاء ذوي المراتب العالية في إدارة رئيس أميركي مثل هذه الانتقادات وهو لا يزال في البيت الأبيض. ويمكنك أن تدرج في القائمة أمثال بانيتا وروبرت غيتس في كتابه "الواجب", وهيلاري كلينتون في كتابها "خيارات صعبة", الذين كانوا يمثلون الفريق الاستشاري والأمني الأساسي لأوباما, وكلهم وجهوا الانتقادات الساخنة للرئيس. ولم يتأخر مسؤولون بارزون سابقون في وزارة الخارجية عن كيل الانتقادات, فأوباما أضحى رئيساً منبوذاً وعبئا على حزبه. ولم يحسب الناخبون للرئيس الديمقراطي تراجع البطالة إلى 9,5% وهو أدنى مستوى منذ ست سنوات، ولا النمو الكبير الإجمالي الناتج الداخلي الذي سجل 5,3% في الفصل الثالث من السنة، ولا إصلاح نظام الضمان الصحي. وتعزز الإحساس بإخفاق إدارة البيت الأبيض مع تراكم السجالات والفضائح، لا سيما الكشف عن برامج وكالة الأمن القومي للرقابة والتجسس والاستهداف السياسي في عمل مصلحة الضرائب والتقصير في المستشفيات العسكرية وتدفق المهاجرين غير الشرعيين على الحدود المكسيكية وإصابة ممرضتين أميركيتين بفيروس ايبولا، عطفا عن تزايد الأزمات في الخارج مع النزاع في أوكرانياوسوريا. إن التاريخ يعيد نفسه مع الحزب الديمقراطي مرة ثانية في الانتخابات النصفية التي جرت يوم الثلاثاء 4 نوفمبر 2014 في الولاياتالمتحدة لاختيار نواب البرلمان وكذلك جزء من مجلس الشيوخ، فقد سبق وتعرض الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كيلنتون لنفس الخسارة في آخر سنتين من ولايته. وبات خصوم الرئيس الأميركي يسيطرون بالكامل على الكونغرس، ما يخول لهم إملاء الأجندة البرلمانية لما بقي من ولاية اوباما. وكان الجمهوريون قد أعلنوا قبل الانتخابات أن أولوياتهم ستكون اقتصادية وجهزوا عشرات القوانين «المراعية للنمو» للسماح ببناء خط أنابيب النفط «كيستون اكس ال» بين كندا وخليج المكسيك وتطوير إنتاج الغاز الطبيعي ومساعدة الشركات الصغرى والحد من القوانين والتنظيمات. سيُضطر إلى التخلي عن أجندة طموحة داخلياً تشمل إقرار قانون إصلاح جذري للهجرة، واستبدالها بتشريعات أكثر تلاقياً مع الجمهوريين. كما سيواجه فتح صفحة التحقيقات وجلسات الاستماع في المجلسين ضده، على غرار ما حصل خلال حكم بيل كلينتون حين تورط بفضيحة جنسية مع مونيكا لوينسكي. وبعد إعادة انتخابه، أعلن السناتور الجمهوري ميتشماكونيل المدعو بصفته رئيسا للغالبية في مجلس الشيوخ لتجسيد المعارضة لباراك اوباما، موضحا أن «هذه التجربة القائمة على توسيع دور الدولة دامت أكثر ما ينبغي. حان الوقت لتبديل الوجهة! حان الوقت لإعادة البلاد إلى السكة!». على عكس ما يرجو كثيرون خارج الولاياتالمتحدة، ممن يعارضون سياسة الرئيس باراك أوباما، من غير المتوقع ان تؤثر خسارة حزبه الغالبية في مجلس الشيوخ، في سياسته الخارجية، وخصوصاً الشرق أوسطية، المبنية على مغازلة إيران كمفتاح لحل الأزمات الأخرى في سورياوالعراق واليمن ولبنان. الدستور الأميركي يمنح الرئيس صلاحيات شبه مطلقة في السياسة الخارجية، على عكس الشؤون الداخلية. وفي الموضوع الإيراني، لطالما عارض الحزب الجمهوري، الذي انتزع الغالبية في مجلس الشيوخ وجددها في مجلس النواب، سياسة أوباما القاضية بالانفتاح على إيران، وتبنى سياسة تقضي بتشديد العقوبات عليها سبيلاً لإخضاعها واجبارها على القبول بالتخلي عن برنامجها النووي كاملاً. ويعتقد الجمهوريون ان إيران جاءت الى طاولة المفاوضات بعدما أوجعتها العقوبات الأميركية والدولية، ويعتقدون ان اجبار إيران على التفاوض كان بفضل العقوبات، ما يعني ان المزيد من العقوبات ستجبرها على التنازل. لذلك، صادق الجمهوريون في مجلس النواب على قانون يقضي بتشديد العقوبات الأميركية على إيران، ولكن بمفعول متأخر يبدأ بعد نهاية مفاعيل اتفاقية جنيف المؤقتة في 24 من الشهر الحالي، في حال عدم التوصل الى اتفاقية دائمة بحلول ذلك التاريخ. لكن أوباما يتعامل مع الملف الإيراني بحرص شديد، ولا يريد اثارة أي تشويش، من قبيل رفض أي عمل عسكري مباشر أو غير مباشر ضد الرئيس السوري بشار الأسد وقواته، لا لأن الرئيس الأميركي يؤيد بقاء الأسد، بل خشية ان تعكر أي خطوة من هذا النوع صفو المفاوضات مع الإيرانيين. وكما في الموضوع السوري، كذلك في إمكانية فرض عقوبات جديدة على إيران يعارضها أوباما تماماً، وهو ما دفعه للإيعاز لزعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، هاري ريد، برمي قانون الجمهوريين في سلة النفايات، ما عطله تماماً. لكن مع تحول الغالبية في الشيوخ الى الجمهوريين وترؤس ميتشماكونيل المجلس، يصبح مرجحاً أن يعيد الجمهوريون الكرّة، فيقدمون قانون عقوبات جديدة على إيران تتم المصادقة عليه في مجلسي الكونغرس وإرساله للبيت الأبيض للتوقيع عليه. في هذه الحالة، يمكن لأوباما نقضه وإعادته ما لم يحز غالبية ثلثي الأصوات. لكن حيازة ثلثي الأصوات لعقوبات جديدة على إيران أمر ممكن، وهو ان حصل يجبر أوباما على التوقيع. مع ذلك، يبقى القانون حبراً على ورق من دون إصدار الرئيس الأميركي لمراسيم تنفيذية لتطبيق العقوبات الجديدة، وهو ما يعني ان أوباما يمكنه ان يمنع فعلياً أي عقوبات جديدة على إيران، مثلما يمكنه منح إعفاءات لرفع بعض أو كل العقوبات الحالية المفروضة على الجمهورية الإسلامية، حتى لو أصدر الكونغرس مئات القرارات التي تطلب عكس ذلك. إن المراقبين الاميركيين لا يعتقدون ان إيران ستتلقف يد أوباما الممدودة، فمرشد الجمهورية، علي خامنئي، أعلن عزم بلاده إنشاء «اقتصاد المقاومة»، أي اقتصاد اكتفاء ذاتي، ولا يكون بحاجة لمبيعات النفط وعوائدها او للاستثمارات الخارجية للنمو. حتى أن خامنئي قال صراحة أن وضع الاقتصاد الإيراني لا يرتبط برفع جزئي او كلي للعقوبات. وما يؤكد نية المرشد رفض أي اتفاقية مع العالم سعي الرئيس الإيراني حسن روحاني وفريقه، منذ شهور، الى كسر العقوبات الدولية وتجاوزها حتى في حال عدم رفعها. ومع انهم لم يوفقوا حتى الآن، إلا أن سعيهم يشي بأنهم لا يرون الاتفاقية مع العالم تقترب. ومع المماطلة الإيرانية، وإصرار أوباما ان الطريق الوحيد لحلول الشرق الأوسط يجب ان يمر في طهران، ومع الصلاحيات التي يتمتع بها أوباما حتى بعد الهزيمة المذلة التي تكبدها حزبه في انتخابات الكونغرس ومحافظي الولايات، من غير المتوقع ان يتغير الكثير في موقف أميركا من الملفات الشرق أوسطية الراهنة. حسب رئيس تحرير سابق لجريدة «الشرق الأوسط» اللندنية، طارق الحميد في مقالته بعنوان «سوريا.. الآن عرفنا خطة بوتين» فإن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بدا ضعيفا في خطابه في الأممالمتحدة فيما يخص القضية السورية، وكانت نبرته في الحديث عن سوريا غير حماسية، الأمر الذي يؤكد أن الفجوة بين موسكو وواشنطن قد ضاقت لحد كبير، لأن الموقفين متضادين، فيما يتعلق ببقاء بشار ورحيله. الإداراة الأمريكية تفضل الجلوس في المقاعد الخلفية فيما يخص الأزمة السورية، وأن الرئيس الروسي يستغل ضعف أوباما في الشهور الأخيرة من ولايته ليحقق لبلاده مكاسب كبيرة سياسية ودبلوماسية، مؤكدا أن روسيا تقود تحالفا رباعيا بقيادتها ومعها إيرانوالعراقوسوريا، ضد الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة. أوباما سيستمر في المماطلة في سوريا حتى لا ينهار الأسد وتفزع إيران، وستبقى حربه على تنظيم «الدولة الإسلامية» نصف حرب، تهدف الى وقف توسعه فقط من دون اللجوء الى تدميره الكلي المكلف مالياً وبشرياً. وسيستمر أوباما في منح موافقته الضمنية للهيمنة الإيرانية في العراق واليمن، كبادرة حسن نية، ولن يثيره غضب حلفائه في إسرائيل وتركيا والسعودية، فصلاحيات أوباما تسمح له الاستمرار في سياسته الخارجية، وهو على الغالب ما سيدأب على فعله على الرغم من خسارته المدوية. فوز الجمهوريين الاخير لا يعطيهم بالضرورة قصب السبق في قادم الايام، بل على العكس قد يضع نوابهم امام خيارات تشريعية صعبة قد تستغل ضدهم في سباق الانتخابات الرئاسية. مشكلة أخرى قد تواجه الجمهوريين للوصول إلى البيت الابيض وهي المتعلقة بكثرة الاسماء المتداولة للترشح للانتخابات التمهيدية ما قد يبعد يشتت الناخبين ويبعد الاضواء في الفترة المقبلة عن مرشح بذاته داخل الحزب. انقسام الجمهوريين قد يمثل نقطة تفوق لهيلاري كلينتون التي يتوقع ان تكون مرشحة الديمقراطيين لرئاسيات 2016. فالسيناتور السابقة عن نيويورك ووزيرة الخارجية السابقة تعمل بقوة على تعزيز مكانتها السياسية وزيادة شعبيتها للعودة بالحزب الديمقراطي إلى البيت الابيض. * باحث في العلاقات الدولية-مركز الدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية بوجدة