1 للموسيقى قوة عظيمة؛ إنها ذلك الانجذاب الحر إلى الأعلى من دون فواصل، ولا سكنات رادعة. إنها ما يعطي لروحك كثافة من التدفق المغناطيسي، وهي ما يجعلك تشعر أن هناك هالة من الطاقة التي لا يمكن الإمساك بها أو اعتقالها داخل علبة. والموسيقى أيضا كل تام، متناسق الأجزاء، ومنظم بإحكام. إنها أسلوب ونظام ومنطق، وليست مجرد تتابع نغمي يقود إلى لحن على نحو غير متوقع. وكغيرها من الفنون الأخرى، فالموسيقى تقوم على الاستدعاء والتخيل وإعادة التركيب والابتداع وملء الوعي نغمة نغمة، وخطوة خطوة. وهذا ما يجعل منها، إذا اقترنت بالكتابة، مولدا لقوة النص وسحره، وخلوه من المنشزات والتثغيرات العشوائية. وهذا معناه أيضا أن أي كتابة تقع خارج النسق الموسيقي لا يمكنها أن تتمتع بما يجعلها في منأى عن الإعاقة؛ ذلك أن الانسجام التركيبي، كيفما كانت آلية تحققه، هو الذي يسمح بتجسير العلاقة مع القارئ.. وهذا ما نجح فيه كتاب عالميون جعلوا من الموسيقى هي زاد الطريق وضوؤه، وحولوا كتاباتهم إلى طروس لأعمال موسيقية غاية في الدقة، تركيبا وبناء. ومن هؤلاء صاحب رواية "الخلود"، ميلان كونديرا، الذي تشكل الموسيقى نقطة القوّة في أسلوبه الروائي، وهذا ما يتضح في الكثير من أعماله: (الخلود، فالس الوداع..إلخ)، اذ تطغى الموسيقى على جمله النثرية الى حدّ يجعل من نصّه أشبه بقصيدة شعرية سلسة ورشيقة، بل إنه في رواية "الخلود"يقدم إشارات واضحة إلى علم الموسيقى وارتباطه بالعوالم الروائية. بينما يقدم في "الوصايا المغدورة" آراءَ نقدية حول تأثير البناء الموسيقي على البناء الروائي. ويعود الاهتمام الموسيقي البالغ في كتابات كونديرا إلى أن والده هو الموسيقي المعروف لودفيك كونديرا الذي علّمه العزف منذ نعومة أظافره وعرّفه بالموسيقى وعالمها الواسع، إلى درجة زاول معها في فترة من حياته العزف على "البيانو جاز"، وهذا ما انعكس جلياً في أسلوبه الكتابي الذي ينمّ عن موهبة ومعرفة وإتقان موسيقي. ومن الكتاب الذين تفاجئنا ثقافتهم الموسيقية الروائي الياباني هاروكي موراكامي، صاحب "الغابة النرويجية" و"سبوتنيك الحبيبة" و"الفيل يتبخر" و"كافكا على الشاطئ" و"1Q84"، حيث عمل في فترة شبابه في "متجر تسجيلات". كما تخبرنا سيرته أنه فتح موراكامي مقهى "بيتر كات" مع زوجته، وكانت تلك المقهى معروفة بتقديم موسيقى الجاز في المساء. بل إن كثيرا من رواياته، كما نقرأ في سيرة هاروكي، تستلهم عناوينها من الموسيقى الكلاسيكية، بل كتبت على ضوء تفاعل الكاتب معها. وطبعا، هناك كتاب آخرون أخذتهم الموسيقى إلى مدارجها، مثل: بول بولز، كارلوس فوينتس، خوان غويتيسولو.. فتحولت أعمالهم إلى سمفونيات خالدة.. 2 الموسيقى قرد ميت. والحكاية ابتدأت على كوكب الأرض حينما تسلق قرد شجرة عالية، وظل يقفز من غصن إلى آخر، لكنه انزلق فأخترق بطنه غصن مملوء بالشوك، وبقيت مصارينه مشتبكة بين غصنين. وبعد مدة من الزمن، جفت تلك المصارين ويبست، وكانت كلما هبت الريح وصدمتها، سمع منها صوت. وهذا يعني أن الموسيقى لم تنزل من السماء، ولم تخرج من رحم الدين كما يزعم المنظرون والفلاسفة والفقهاء الصوفيون. الموسيقى بنت الغابة. ولن يقنعني الماريشال قيبو أن العيطة إسلامية، وأن الراج الذي يصطخب في المعابد القديمة ولدته كريشنا بعد مجزرة رهيبة تعرضت لها خادمات الضياء المقدسات، وأن الجاز حشرجة إفريقية لاستدعاء روح الأرض الحارقة، وأن الروك أندرول هو سوط الرب على جناح الملاك المتمرد. لن أقتنع بكلام فيثاغوراس عن الموسيقى وحركات الكواكب، ولن يسحرني كلام كانط أو نيتشه أو شوبنهاور عن الموسيقى والخبرة الروحية والإثارة الغامضة، وكل ذلك الكلام المغلق الذي يشبه اندلاع الحرب العالمية العاشرة من احتكاك حَجَرَيْن. لن يقنعني أحد أن الموسيقى صراع غير متكافئ بين قديس وشيطان، أو أنها شارع عريض من النمور الموسيقى قرد قتيل، أشرقت عليه الشمس فجففته، وعلمته أن ينقل بإخلاص ما يجري في هذا الجحيم الواسع. الفرح، الحزن، الكرب، الرعب. ليست إلا مجرد مصارين معلقة في شجرة وريح باردة..