نشرت المجلة المصرية «عالم الكتاب» النص الكامل لرواية صنع لله إبراهيم «67»، التي كتبها صاحب «اللجنة» في بيروت بعد عام واحد على الهزيمة، لكنه لم ينشرها حينها لأسباب كثيرة، فحملها معه في تنقلاته المختلفة بين بيروت وبرلين وموسكو، ثم نسي أمرها حتى الأسبوع الماضي، عندما نشرتها المجلة. يمكن اعتبار الرواية بمثابة الجزء الثاني من روايته الشهيرة «تلك الرائحة»، التي كتبها بعد خروجه من السجن (1959 1964). في السجن، بدأ يعيد التفكير في أشكال التعبير عن الذات، ليكتشف أن الكتابة هي الوسيلة الأقرب إليه من العمل السياسي المباشر. كتب صنع لله يوميات صغيرة حول موضوع واحد، هو الكتابة نفسها: ماذا تعني؟ كيف يعبّر؟ بعد خروجه من السجن، كتب روايته الأولى «تلك الرائحة»، التي صدّرها بمقتطفٍ لجيمس جويس: «أنا ابن هذا المجتمع، وابن هذه الحياة، وسأعبّر عن نفسي كما أنا»، والمقتطف شعاره في الحياة في ذلك الوقت. أثارت الرواية ضجة ليست فقط سياسية وفنية، بل عائلية أيضاً. ف «تلك الرائحة» أكبر من مجرّد قصة، وهي بحسب يوسف إدريس ثورة، أو صفعة، أو آهة منبِّهة قوية تكاد تثير الهلع. الصدمة الأهم للرواية جماليَّة: لغة نقيض اللغة الكلاسيكية الرصينة، حيث الجمل القصيرة المدبّبة، والعبارات التلغرافية المحايدة، والمسافات القصيرة بين الفواصل والنقاط.. أسلوب استوحاه من الملاحظات التي كان يسجِّلها سريعاً على الأوراق المهرَّبة في المعتقل، وهي ملاحظات مأخوذة من هيمنغواي، الذي وجد عنده ما كان يبحث عنه: الاقتصاد والتعبير المشكوم. وبدا لجبل الثلج العائم بريق خاص في مواجهة الترهّل التقليدي في أسلوب التعبير العربي. تحمل «67» السمات الفنية واللغوية والأسلوبية والجمالية نفسها التي ميّزت «تلك الرائحة»، وإن كانت أكثر جرأة. حينها، رفضت نشرها دور نشر عديدة، وسافر هو في رحلة طويلة خارج مصر، تنقل خلالها بين بيروت وبرلين وموسكو، ثم عاد في منتصف السبعينيات المنصرمة إلى بلده، وكان المناخ عندها مهيّئاً للانقضاض على التجربة الناصرية، بالحق حيناً وبالباطل أحياناً أخرى، فرفض هو نفسه نشر الرواية، كي لا يكون جزءاً من تلك الحملة الساداتية على عبد الناصر. ووجد أن تجربته الجمالية نضجت وتجاوزت هذه المرحلة. ثم اختفت الرواية، ونسي أمرها، وانشغل بتطوير تقنياته وتجربته، إلى أن عثر عليها مؤخّراً. وهي تتكوّن من 12 فصلًا، وتبدأ باحتفال الأبطال، كأننا على خشبة مسرح ليلة رأس السنة. هكذا يُمّهد صنع الله إبراهيم لشخصياته، التي سيتوالى ظهورها في الفصول التالية، علماً أن كلّ فصل منها يتناول شهراً من أشهر العام 1967 (عام الهزيمة القاسية). يرصد إبراهيم، المنشغل بالتفاصيل الدقيقة، أسباب ما جرى، أو مقدّمات الهزيمة، لكنه لا يجيب على سؤال: لماذا؟. مع هذا، وبفضل حركة الأبطال وحواراتهم المتقشّفة، نجد «الانحلال النفسي» لا بالمعنى الأخلاقي، ما يقود إلى الهزيمة. كالعادة، نجد أيضاً أن الجنس ليس إثاريّاً، بقدر ما هو جنس آلي ميكانيكي، يشبه الجنس في رواياته السابقة كلّها. يكشف هذا التحلّل النفسي مجتمعاً على وشك الهزيمة. الرواية «وثيقة» عن تلك الفترة، ربما تجاوزها صنع الله إبراهيم فنيّاً وجماليّاً، لكنه يقدّم هنا مقترحاً وسؤالاً، بل مجرّد اقتراح جمالي عن تلك الفترة. أيضاّ، تسدّ الرواية ثغرة زمنية بين روايتيه «تلك الرائحة» (1966) و «نجمة أغسطس» (1974)، يستكمل بها مشروعه الروائي، بأن يكون «مفكرة مصر». ففى رواياته «اللجنة» و «ذات» و «شرف» وغيرها، كان يبحث عن «شكلٍ روائي يعبّر عن الواقع الموجود، كما يقول في أحد حواراته. هذا التأريخ لا ينفي صفة الرواية أو الخيال. أي أن الروائيّ لا يصبح مؤرِّخاً، لأن الرواية من وجهة نظر صنع الله إبراهيم نفسه مجرّد «كذبة».