الأزمة التي أثارها الفيلم الإيراني "محمد رسول الله" بجانب وجهيها السياسي والديني، تلقي الضوء على إشكالية متجذرة في الفكر السني بكل أشكاله وأوجهه. هذه الإشكالية هي اقتصار تناول سير الأنبياء والرسل، والصحابة أيضًا، على رجال الدين دون سواهم، واعتبار كل من يتناولهم من خارج المؤسسة الدينية دخيلًا متطاولًا. لهذا السبب طال كل من كتب عن سيرة النبي، بل وعن التاريخ الإسلامي عمومًا، من خارج المؤسسة الدينية، هجوم شديد، واتهامات بلغت حد الكفر، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك كان د.طه حسين، ومحمد حسين هيكل، بل إن العقاد نفسه، وهو كاتب إسلامي في نظر البعض، تعرض لنقد وهجوم شديدين بعد كتابه "عبقرية محمد". انتقلت الإشكالية من الأدب إلى السينما، أو بالأحرى، الأعمال الدرامية بشكل عام، فشكل تجسيد الأنبياء، بخاصة النبي محمد، وتصوير حياة الصحابة، شكل هاجسًا لدى رجال الدين. بطرق باب التاريخ، يتبين أن حادثة منع الفيلم الإيراني "محمد رسول الله" ليست الأولى من نوعها، فقد شهد العالم الإسلامي ضجة شبيهة، بل ربما تكون أكثر قوة، منذ حوالي أربعة عقود. عندما قرر المخرج السوري مصطفى العقاد إخراج فيلم يصور حياة النبي عليه السلام بعنوان "محمد رسول الله" الذي تحول فيما بعد ل"الرسالة"، تم عرض السيناريو على الأزهر الشريف الذي وافق على إنتاج الفيلم بعد مراجعة الحقائق التاريخية الواردة به والتأكد من صحتها، وكذلك بعد الاتفاق مع العقاد على ألا يظهر شخص النبي بأية صورة كانت، وألا تظهر أيضا أية شخصيات من شخصيات العشرة المبشرين بالجنة. وبالفعل بدأ العقاد الخطوات الأولى لإنتاج الفيلم، وتم الاستقرار على المغرب لتكون موقعًا لتصويره، لكن فجأة، وبعد أن كان التصوير قد بدأ، اعتذرت السلطات المغربية للعقاد عن عدم إتمام التصوير. والسبب كان راجعًا للحملة العنيفة التي قادها رجال الدين في المملكة العربية السعودية ضد الفيلم، حيث رفضوا رفضًا باتًا، وحرموا تحريمًا مطلقًا أي تصوير لحياة النبي في عمل فني، إلا الداعية عائض القرني الذي اعتبره نشرا للإسلام وتجميلا لصورته، وهو أكثر من ألف تفجير، بحد رأيه. وغيّر العقاد وجهته من المغرب إلى ليبيا، حيث رحب العقيد الراحل معمر القذافي آنذاك بتصوير الفيلم، بل وبالمساعدة في إنتاجه ماديًا. بجانب تبدّل موقف المغرب واعتذار السلطات المغربية، فقد تبدّل موقف الأزهر أيضًا بعد ذلك، رغم أنه وافق على إنتاج الفيلم في البداية، لكنه عاد ورفض، بحجة أن الفيلم يجسد شخصية عم النبي حمزة بن عبد المطلب، الذي كان يقوم بدوره الممثل المصري الراحل عبد الله غيث. ليتم بعدها منع عرض الفيلم في مصر، وفي أي بلد عربي سوى ليبيا، ليبقى ممنوعًا من العرض في مصر لما يقرب من ثلاثين عامًا. ومن رحم الدراما الإيرانية، خرج مسلسل يوسف الصديق، الذي يحكي قصة النبي يوسف بن يعقوب (عليهما السلام). الأمر المثير للدهشة أن مسلسل يوسف الصديق عندما عرض في مصر، وهي بلد ذو أغلبية سنية، حقق رواجا كبيرا وتمتع بنسبة مشاهدة عالية، رغم موقف الأزهر الرافض للعمل شكلًا وموضوعًا. ففي أول رد فعل تجاه عرض مسلسل "يوسف الصديق"، على قناة ?ميلودي دراما?، طالب مفتي الجمهورية د.علي جمعة المسئولين عن القناة بوقف عرض المسلسل فوراً لأنّه، حسب وصفه، حرام شرعًا. وطالب الجمهور بمقاطعة هذه الأعمال لأنّ مشاهدتها _حسب قوله_ حرام شرعاً، مشيراً إلى أنّ مجمع البحوث الإسلامية أصدر فتوى حسم فيها هذه القضية تمامًا، وحرّم ظهور الأنبياء والعشرة المبشّرين في الجنة من الصحابة وآل البيت والملائكة لأنّه لا يوجد من يماثلهم في البشر مكانةً وسموًا. وأكد أن هذا الحكم عام ومطلق ينطبق على مسلسل "يوسف الصديق" حيث تم تجسيد نبي الله يوسف ويعقوب عليهما السلام بإلاضافة إلى أمين الوحي جبريل. وفي رد فعل مخالف لما سبق على لسان داعية إسلامي، قال الدكتور مبروك عطية، أستاذ بجامعة الأزهر، إن تجسيد الأنبياء في أعمال درامية جائز شرعا، مخالفا بذلك فتوى الأزهر. وعلى القناة ذاتها، عرض المسلسل الإيراني "مريم المُقدسة"، وتعانق الأزهر والكنيسة لتعنيف المسلسل، لكن السبب ليس واحدًا، فرفض الكنيسة كان راجعًا إلى أن المسلسل تناول حياة السيد المسيح من وجهة نظر إسلامية، وليست مسيحية، أما الأزهر فكان اعتراضه بشأن تجسيد الأنبياء بشكل عام. وبشكل عام، فإن الرافضين لفكرة تجسيد الأنبياء يستندون على رأي يقول إن الصحابة لهم مرتبة عليا لا يجوز لأحد من البشر أن يحتلها، ولا يجوز لأي ممثل أن يقدم هذه الشخصية، لئلا يرتبط في أذهان الناس اسم الصحابي بهذا الممثل. في حين يستند المدافعون عن الفكرة على مبدأ أن القضية مستحدثة، ولم ينزل فيها نص سواء كان آية أو حديث، ولا محل حتى للقياس، لذلك، بحسب رأيهم، فباب الاجتهاد مفتوح، ولا سبيل للتحريم المطلق، وما دام ليس هناك سبيل للتحريم المطلق والمؤكد، فإن هناك إمكانية لإباحته. السنوات الأخيرة شهدت حدثًا غير متوقع أضاف جديدا لهذه القضية التي بدت محسومة، ففي عام 2012 قامت مجموعة MBC بالتعاون مع المؤسسة القطرية للإعلام بإنتاج مسلسل يجسد حياة الصحابي الجليل "عمر بن الخطاب رضي الله" عنه، ويقدم المسلسل السوري سامر إسماعيل شخصية عمر، والممثل السوري غسان مسعود دور أبي بكر الصديق رضي الله عنه. برغم أن المسلسل تعرض لانتقادات واسعة من رجال الدين، وعلى رأسهم الأزهر، فإنه جاء مشفوعًا بأسماء لرجال دين قاموا بمراجعته كان منهم القرضاوي وعودة. المسلسل كان بمثابة إلقاء حجر في المياه الراكدة، ذلك أنه يمثل خطوة إلى الأمام في قضية بدا أن توقفت إلى الأبد، فها هم الصحابة هؤلاء، وتحديدًا بعض المبشرين بالجنة، يتم تجسيدهم، وبموافقة من رجال الدين. وفي عام 2014، صدر فيلم "نوح" وهو فيلم ملحمي ديني من إخراج دارين أرنوفسكي وكتابة أرنوفسكي وآري هاندل. من بطولة راسل كرو وأنثوني هوبكنز وإيما واتسون وجينيفر كونلي. الفيلم المبني على قصة سفينة نوح، مُنع عرضه في الشرق الأوسط ما عدا لبنان. منعت بعض الدول عرض الفيلم بسبب تجسيد شخصية النبي نوح خلافًا للفتاوى الإسلامية التي تمنع تجسيد الأنبياء، وكذلك بسبب ما رأوه تحريفًا مس شخصية النبي نوح، ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية وقطر والبحرين والإمارات. ولعل من أشهر المواقف المرتبطة بمنع عرض الفيلم في مصر، السجال الكلامي الذي نشب بين الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، ومؤسسة الأزهر الشريف، وحزب النور. فقد اعترض جابر عصفور، على منع الفيلم من قِبل الأزهر، قائلا "الأزهر لا يحكمنا"، بل الدستور هو الذي يحكم الجميع في الدولة، متعجبا من إصرار مشايخ الازهر على منعه، داعيا إياهم إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فإن تلك الأعمال تندرج تحت مسمى "الفن". فيما رد الشيخ يونس مخيون، رئيس حزب النور، في بيان له، بأن الأزهر هو المرجع الأساسي في العلوم الدينية، والشئون الإسلامية، أي في كل ما يخص الشأن الإسلامي والفن، مطالبًا عصفور باحترام الأزهر باعتباره المؤسسة التي تمثل الخطاب الإسلامي، بحد تعبيره. وكما تعانق الأزهر والكنيسة لمنع عرض المسلسل الإيراني "مريم المُقدسة"، تلاحم الأزهر مع الطائفة الشيعية مجازيًا لمنع مسلسل "الحسن والحسين" الذي عرضته قناة بغداد العراقية، فقد حرم الأزهر في مصر عرض المسلسل، وهو ما رحبت به المرجعية الشيعية، لما في رأي الشيعة أن المسلسل يحوي مغالطات تاريخية. وفي حوار له مع محطة BBC قال الممثل السوري غسان مسعود، صاحب شخصية أبي بكر في مسلسل عمر، ردا على سؤال المذيع له حول الانتقادات التي تهاجم العمل، وحول الرفض التام لرجال الدين لتجسيد شخصيات الأنبياء، قال مسعود إنه لا يستعبد أن تفتي المرجعيات الدينية في المستقبل بجواز تجسيد الأنبياء، مشيرا إلى أنه منذ سنوات قليلة ما كان لأحد أن يتخيل أن يتم تجسيد شخصية الصديق والفاروق وعلي _رضي الله عنهم_ في عمل درامي، في حين تحول هذا الحلم إلى حقيقة. كلمات مسعود، مشفوعة بهذا التطور الذي شهدته القضية في السنوات الأخيرة، تدفعنا للتساؤل حول إمكانية حدوث ذلك قياسا على تغير الموقف في شأن الصحابة. من الصعب أن ننكر أن الجانب السياسي قد يقف وراء بعض الأعمال الفنية، ذات الطابع الديني في كثير من الأحيان، ما يجعل الإشارة لغرض سياسي أمرًا منطقيًا. وبنظرة متفحصة لتاريخ السينما التاريخية والدينية، نرى جانبًا من الاستغلال السياسي للأحداث التاريخية والدينية، كالفيلم العراقي "القادسية"، المستوحى من معركة القادسية التي خاضها المسلمون، بقيادة الصحابي "سعد بن أبي وقاص"، المُلقب بحامي البوابة الشرقية للعرب والمسلمين، ضد جيوش الفرس. فقد رأى الفنان عزت العلايلي، بطل الفيلم، ومجسد دور الصحابي أن الهدف من ورائه هو التمهيد للحرب التي شنها الجيش العراقي ضد إيران عام ????، ومحاولة تشبيه صدام في هذه الحرب بالصحابي سعد بن أبي وقاص، وعلى أنه حامي البوابة الشرقية للعرب والمسلمين، بخاصة أن حربه ضد إيران حملت اسم المعركة الإسلامية. وقد منعته مؤسسة الأزهر آنذاك أيضًا، ليس استنادًا للهدف السياسي الذي حمله الفيلم، بل لقضية تجسيد الأنبياء. وكذلك الفيلم التاريخي "الناصر صلاح الدين"، للمخرج الراحل يوسف شاهين، والذي كان له بُعد سياسي، وهو الإسقاط على الراحل جمال عبد الناصر، في دور زعيم الأمة. وأخيرًا، ففي بلادنا العربية فإن الممنوع مرغوب، وعالم الإنترنت كسر الحواجز، كما أن حلقات منع تداول الأفلام الدينية على المستوى العربي، ربما لم تنتهِ، وبطبيعة الحال، الأعمال الدرامية التي تتناول حياة الصحابة لن تتوقف، في حين يظل أمر تجسيد الأنبياء مثار شك، لكن هل نرى في السنوات القادمة عملًا عربيًا يجسد النبي محمد، أم أن ذلك ما زال ضربا من الخيال؟ عن بوابة الأهرام