القراءة، في كل التنظيمات المغلقة، ممنوعة، محرمة، إلا ما يقرره التنظيم. القراءة خارج المقرر بداية للتفكير، والسؤال، والخروج بالتالي عن السمع والطاعة وهما ضرورة في مثل هذه التنظيمات. ماذا يقرأ الإخوان؟ بلال علاء يحاول الإجابة عن السؤال. كان شائعا في جلسات التعارف في أي وسط إخواني جديد، أن يقول الجميع هواياتهم، في الأغلب الأعم كان الناس يقولون شيئين فقط: »الكرة والقراءة«، ورغم أن الكرة يمكنها أن تكون بالفعل هواية مشتركة، فالقراءة لم تكن كذلك، ولكنها كانت أول ما يتبادر لذهن المرء عندما يسأل عما يحب أن يفعل، فإذا سئل الناس أي الكتب يفضلون، كان الأغلب الأعم منهم يكتفي بذكر رسائل »االإمام حسن البنا، بينما يضيف »المثقفون« منهم بعض كتب يوسف القرضاوي أو تفسير سيد قطب »في ظلال القرآن« أو كتاب "المتساقطون على طريق الدعوة"« للكاتب الإسلامي اللبناني فتحي يكن والقليل جدا كان يضيف ثلاثية "»المنطلق، العوائق، المسار« "للكاتب الإخواني العراقي أحمد محمد الراشد. منهاج الحد الأدنى لم تكن القراءة منتشرة داخل الإخوان، فهم جزء من مجتمع لا يقرأ، ولم يكونوا يختلفون عنه في هذا، ولكن كانت هناك »مناهج تربوية« يدرسونها، وكان التقدم في دراستها من آليات التصعيدالتنظيمي داخل الجماعة، ولم تكن تلك المناهج التربوية في أغلبها إلا كتبا تجمع مقتطفات من شرح بعض السور والأحاديث وبعض الفقه والسيرة وقصص أصحاب الرسول ومبادئ بسيطة في التوحيد والعقيدة. ينقسم الإخوان إلى مراحل تنظيمية، لكل منها منهجها الخاص، فكتابا "»من مبادئ الإسلام"« و"»في رحاب الإسلام"« لمرحلة المحبين والمؤيدين و"»في نور الإسلام« للمنتسبين "- وهي بالمناسبة ليست كتبا سرية وكانت متاحة حتى وقت قريب عند الكثير من باعة الصحف والكتب في الشوارع - وبجانب شروط أخرى تتعلق بالالتزام التنظيمي، كان من الشروط التصعيدية مستوى تنظيمي آخر هو الانتهاء من دراسة تلك المناهج. صحيح أن المرء يمكنه أن يحدس بسهولة سبب البساطة المتناهية لتلك المناهج، لكونها مشتركة بين شرائح مختلفة من الناس المنضوين في التنظيم، والمختلفين في خلفياتهم التعليمية وميولهم الثقافية، إلا أنه كانت هناك دوما شريحة أنتلجنسيا شبابية صاعدة داخل الجماعة، ساخطة على فقر تلك المناهج، السخط نفسه لم يكن عبثيا تماما، فالمناهج تلك تتم دراستها كل أسبوع في »لقاء الأسرة« وعليه كانت تلك الساعات مهدرة بالنسبة للمتهكمين على المناهج، وكان الجواب على أولئك الساخطين شديد البديهية أيضا، وهو أن على من يريد التوسع خارج المناهج أن يقرأ كتابا ويلخصه ويعرضه في »اللقاء المقبل«، وهو ما لم يكن يحدث في الأغلب لعدم وجود اهتمام فعلي من بقية الجالسين بالمناقشة، وبمرور الوقت ينتهي الأمر بهؤلاء الساخطين الى الخروج من الجماعة بعد أن يستوعبوا - متأخرين دوما - أنهم غرباء على جسم الجماعة. النجاح المهني لا الثقافة لم تكن مناهج الإخوان، في العموم، وبرغم بساطتها، مناهج تعليمية، أغلبها كان منضويا تحت ما يسمى ب »الرقائق«، تجميعات من المواغظ القصصية والخواطر، وعليه ظل الإخوان في عمومهم، أقل اتصالا بما يسمى ب »العلوم الشرعية« بالمقارنة مع السلفيين مثلا، وكان ذلك - في ظل الصعود السلفي العام في المجتمع قبل ثورة يناير - سببا في خروج كتل شبابية من الإخوان متجهين نحو السلفية، »طلبا للعلم«، العلم الذي كان ملخصا في علوم الحديث والعقيدة بالأساس، وهو ما كان يمنح هؤلاء الشباب روحا اعتزازية أثناء حديثهم مع الإخوان، ويرون ذلك سببا للتفوق عليهم، ذلك الاعتزاز الذي جعل شرائح أخرى داخل الجماعة تطلب من قياداتها أن تكون داخل الجماعة دراسة للعلوم الشرعية أيضا مثل أقرانهم السلفيين، ورغم وجود محاولات هنا وهناك، لفعل ذلك، إلا أن هذا لم يحدث، بسبب طبيعة الجماعة نفسها. كانت جماعة الإخوان مكونة بالأساس من المهنيين، مهندسين وأطباء ومعلمين ومحامين، وكانت مهنهم بجانب انضباطهم الحياتي ونجاحهم هي رأسمالهم الاجتماعي بين الناس، وعليه لم تكن تمثل العلوم الشرعية - فضلا عن أي قراءات أخرى - موطن استشارهم الرمزي في المجتمع، ولم تكن تشكل رأسمالا رمزيا قويا داخل الجماعة، كان النجاح المهني والتفوق الأكاديمي هما رأس المال الرمزي الذي يحصد أرباحا داخل الجماعة - أي يساعد أصحابه على الترقي سريعا داخل التنظيم - كما كان هو فرسها الرابح داخل المجتمع. انتصار »النجاح والتفوق الأكاديمي« داخل الجماعة كان واضحا في هيكلها التنظيمي - الذي كان أغلب قياداته من أساتذة الجامعات أو رجال الأعمال - وكان الاهتمام بالقراءة الشرعية أو غيرها، يعني انعكاس ذلك على بنية التنظيم وطبيعة من يتم تصعيدهم للمراكز الأعلى، ومعه تغيير أولوياتها من سياسية الى دعوية، حيث إن النجاح والتفوق الأكاديمي، كان ورقة رابحة اجتماعيا في الانتخابات - خاصة داخل النقابات - وكجماعة سياسية بالأساس ، كان ضروريا بالنسبة لها أن تكون قيادتها محققة لما يراه عموم المجتمع »نجاحا« يسمح لصاحب بأن يكون ممثلا لهم. الحركة لا التفكير الإخوان كانوا جماعة سياسية، مع تدين منضبط، لكنه غير مكترث بتفاصيل ذلك التدين كالسلفيين، يكفي المرء أن يعرف أوليات الفقه والشريعة بالأساس وربما العقيدة، وغير ذلك متروك للمتخصصين فيه ليناظروا بقية التيارات الإسلامية أو العلمانية، لم يكن الإخوان كجماعة تيارا مجادلا، كانوا تيارا حركيا يقوم بندب بعض الأشخاص القليلين للجدال حتى لا ينشغل البقية بذلك، ويستمروا في السير في أي طريق تحدده القيادة. قرأت مبكرا كثيرا من كتابات المفكرين المناهضين للإسلاميين، مع ذلك لا أذكر أنني أجريت نقاشا مع أحد من الإخوان في قريتنا في ذلك. أو أن أحدا علق لي بالسلب عليه، الإخوان جماعة حركية، تزعجهم التصرفات أكثر، كانوا في العموم مثل المجتمع غير مبالين بالقراءة فلم يكونوا يغضبون من قراءات معينة، لأن ذلك يتطلب قدرا من معرفة المنقود أو من استبطان القراءة كمحرك رئيسي لأفكار الناس، الإخوان في عمومهم أناس سياسيون وحركيون، وكانت أسباب دخول أغلبهم الى الجماعة هي اعجابهم بالنمط المجتمعي المنضبط والمتدين وليس قناعات فكرية صلبة، ونادرا ما يلتحق أحد ما بالإخوان بعد قراءته لأدبياتهم. انضم أغلب الإخوان للجماعة، إما في نشاطاتها الاجتماعية في القرى والمدن وإما في نشاطها السياسي في الجماعات، وبالتالي لم يكن يهم ماذا تقرأ ما دمت منتظما في أسرتك وما دمت ملتزما بالتفوق الدراسي والنجاح المهني بجوار الالتزام الديني، الذي هو غاية ما تطلبه الجماعة. انعكست تلك اللامبالاة الفكرية على الضيق الإخواني من أي نقاشات داخلية، بوصفها جدالات لا طائل منها، وبوصف الفكر بشكل عام رفاهية يعاني منها هؤلاء الذين لا يريدون أن يعملوا فعلا، وكان أحد الحلول الداخلية لاستيعاب الأفراد المشاغبين في الداخل، هون إسناد مجموعة كبيرة من المهام الحركية لهم حتى لا يجدوا وقتا لتضييعه وإشغال الذهن والجماعة بنقاشات وانتقادات لا تليق بشخص »يثيق بقياداته وحكمتها«. الجماعة وجماعة المثقفين من الأمور المثيرة للتأمل، أن الجماعة ومعها تيارات إسلامية أقل زخما، في خضم الصحوة الإسلامية، اخترقت غالبية المجالات العامة، مستفيدة من انتصارها الثقافي الرمزي حينها، ومن تنظيمها المتماسك تمكنت الجماعة من الهيمنة لفترة علي النقابات المهنية، المهندسين والأطباء، وكانت لاعبا قويا في المحامين وأساتذة الجماعات والصحفيين، إلا أنها ظلت بعيدة عن أي اختراق ل »جماعة المثقفين«، ساهمت الطبيعة الموروثة عن النظام الناصري لجماعة المثقفين، بصبغها بصبغة قوية ويسارية، وظل الإسلاميون بمجملهم بعيدين تماما عن القدرة على اختراق هذه الجماعة، والقليلون الذي تمكنوا من ذلك، كانوا يساريين أو قوميين تغيرت أفكارهم مع الصحوة الإسلامية. خلقت الصحوة حيزها الثقافي الخاص، المعتمد على الدين الوعظي وليس الفكر أو الأدب. لذا لم تتمكن في أي مرحلة من اختراق المجال العام الثقافي إلا بصفتها موضوعا للتأمل أو لمحاولات التفسير والتفاعل، وليس - مثلما كان الحال مع بقية المجالات العامة - بصفتها جزءا أساسيا. جماعة طاردة للمفكرين عرفت جماعة الإخوان في تاريخها الكثير من ظواهر الخروج شبه الجماعي لمجموعات من الأعضاء منها، لأسباب متشابكة ما بين النقد التنظيمي أو الاختلاف السياسي أو الفكري وإن اتفقت أغلبها على جعل تصلب الجماعة الفكري والتنظيمي ورفضها لأي نقد داخلي هو السبب الرئيسي للخروج، ومنذ الثمانينات كتب الكثيرون من هؤلاء آراءهم النقدية في الجماعة وعن أهمية ما تفتقر إليه الجماعة بشكل تام من النقد الذاتي والمراجعة. ومن بين الكتب في هذا الموضوع »"النقد الذاتي"« للكاتب السوري خالص جلبي و»الحركة الإسلامية - ثغرات في الطريق« للمفكر الإسلامي الكويتي عبد الله النفيسي. واللافت أنه رغم تباعد المجموعات المنشقة واختلاف بلدانها إلا أن نقدها ظل رغم مرور الزمان ثابتا، ينصب على الشكل التنظيمي شديد الهرمية، ونقد طريقة تعاطي الجماعة مع المثقفين من داخلها، والميل إلى عزلهم عن أي دوائر بإمكانهم التأثير فيها، ثم طردهم أخيرا. كان الإخوان بشكل عام جماعة طاردة للمفكرين أو المهتمين بالثقافة أيا كانت ميولهم. حتى على مستوى العلوم الشرعية التي لم تكن فقط متروكة للقلة القليلة داخلها، ولكنها كانت متروكة تحديدا للأكاديميين الشرعيين، وكان صعود الشرعيين داخلها ككل شيء مرتبطا بالتفوق الأكاديمي، وحتى من حاولوا التوسع معرفيا من الإخوان، كانت طريقتهم في ذلك هي حصد شهادات أكاديمية في المجالات التي يرغبون في معرفتها، وليس مجرد القراءة في ذلك المجال. الإخوان جماعة طاردة للمفكرين بالمعنى الأكثر بساطة، أي جماعة لا تحب حركة الفكر أيا كان اتجاهها، وتقدس الحركة، وأي مناقشات للأشياء يجب أن يكون مردها إلى مدى الأولوية الحركية لذلك، ومدى الفائدة السياسية من ذلك، وجزء كبير من تسامح الإخوان الفقهي - مقارنة بجماعات اسلامية أخرى - مرده إلى كراهيتهم للدخول في متاهات جدالية، وليس لوجود منهج فقهي أكثر يسرا. ذلك الضجر الإخواني من الجدالات والمجادلين، كان يؤول بكل ذوي النزعات الفكرية على اختلافها إلى الخروج من الجماعة، وإذن أن تصبح الجماعة على رغم تصدرها لفترة طويلة مشهد المعارضة السياسية لنظام مبارك وكونها أكبر التبادلات الاسلامية، هي أقل التيارات في إسهامها الثقافي ليس فقط مقارنة بحجمها بل حتى مقارنة بالجماعات السياسية الأصغر منها، حتى الاسلامية منها. لم يكن للإخوان من منظرين حركيين في مصر بعد سيد قطب، وقبله لم يكن هناك سوى حسن البنا نفسه، ولا يمكن حتى اعتبار يوسف القرضاوي أحد منظريهم، فلم يكن سوى شيخ تقليدي يكتب في الفقه وليس له غير ذلك أي كتابات مهمة، كما أن »الصحوة الاسلامية« في السبعينيات، لم تفرز أي كتاب أو مفكرين يمكن ذكرهم ولو بالنقد الغليظ. كانوا تيارا ضخما بلا مفكرين ولا كتاب ولا منظرين، يقوده مهنيون منضبطون ضجرون من الجدالات، وضجرون من الاعتراض الداخلي لكونه يجرهم إلى تلك الجدالات التي يكرهونها، ولذلك اعتمدت الجماعة دوما على المنظرين والكتاب من خارجها - محمد الغزالي وفهمي هويدي كمثال - وكان هناك الكثيرون المستعدون للقيام بذلك الدور، دور منظري التيار الاسلامي من خارج تنظيماته، وكان ذلك حلا لكلا الطرفين، حلا لأولئك الكتاب لأن ذلك يبعدهم عن يد الأجهزة الأمنية، وحلا لقيادات الجماعة حتى لا يكون هناك »مفكرون يلزمونهم بأي شيء«، وساهم افتقارهم التام إلى أي منظرين داخليين في جعلهم جماعة سياسية مشوشة، لا تعرف بالضبط ماذا تريد، وتنشغل بحركتها عن التساؤل المبدئي عن سبب هذه الحركة وغايتها، دون أي اجابة سوى التعابير الانشائية الغامضة عديمة المعنى لحسن البنا عن إعادة الخلافة وأستاذية العالم! الافتقار التام للكتاب والمنظرين، هو ما سمح لرفيق حبيب المثقف ذي الخلفية المسيحية، أن يصبح لفترة من الزمن، منظر الإخوان الأصلب والأكثر اقترابا من قيادات الجماعة والذي خاض بحماسة باسم قياداتهم، معارك جدالية ضد بعض الشباب المعترض على أوضاع الجماعة والمطالب بالتغيير الداخلي، وذلك لافتقار هذه القيادات لقدرة قيادة الجدال بنفسها أو عن طريق أحد كتابها لانعدام وجودهم. الاخوان ليسوا جماعة ذات منهج ديني أو سياسي يمكن دراسته، جماعة سياسية محافظة من أبناء الطبقة الوسطى تسعى للسلطة، وتنشغل في خضم حركتها الساعية للسلطة حتى عن إدراك التغيرات. وعموم الاخوان ليسوا ذوي اهتمامات فكرية معتدلة أو متعصبة، ليسوا ذوي اهتمامات فكرية أصلا، وقلة وفقر مشاركتهم الثقافية في الجدال القكري المصري - حتى الجدال الاسلامي - الاسلامي منه - رغم كونهم ولمدة طويلة تيار المعارضة الرئيسي، خير دليل على ذلك. عن مجلة «عالم الكتاب» المصرية عدد يوليوز / غشت 2015