تضاربت الأقوال ورويت حكايات حول حقبة زمنية من تاريخ منطقة »عبدة« طغت فيها الرواية الشفوية وتكاد تنعدم فيها الرواية المكتوبة الموثقة، مما يعسر على المؤرخ أن يستخرج منها صورة واضحة المعالم والملامح، خاصة في زمن ظهر فيه القائد الذي نقش اسمه ليس فقط في منطقة عبدة وآسفي، ولكن عبر امتداد التراب الوطني. مع الأسف الشديد، هناك من روج حكايات وروايات أقر العديد من الباحثين والمؤرخين وأحفاد هذا القائد أنها بعيدة كل البعد عن الوقائع والحقيقة، بل هناك من استغلها فنياً وأساء لهذه الشخصية أو للمنطقة ولهذه الحقبة الزمنية من تاريخ المغرب، حيث تأكد أن كل من مسلسل »جنان الكرمة أو فيلم خربوشة« بعيد كل البعد عن حقيقة الموضوع، فقد تم استغلاله فنياً لأغراض ربحية لا أقل ولا أكثر. إنه القائد: عيسى بن عمر العبدي، الذي يمثل نموذج القائد المخزني. استمرت قيادته وسلطته على عبدة مدة تزيد عن ربع قرن "1914/1879" وعاصر خلال هذه الفترة مرحلتين: مرحلة استقرار وثبات البنية المخزنية المغربية وتشبع القائد بروح المؤسسة المخزنية وتقاليدها في التسيير وممارسة السلطة القيادية. مرحلة الدخول الاستعماري وما صاحب ذلك من تقلبات أدت إلى خلخلة البنية المخزنية وتهميش دور مؤسساتها وتدجين أطرها من طرف السلطات الاستعمارية. من خلال صفحات فسحة رمضان، ارتأينا أن نقرب القراء من هذه الحقبة التاريخية، واعتمدنا على رسالة جامعية نوقشت منذ أكثر من عقد من الزمن، وتم تقديمها مشكوراً الأستاذ ابراهيم بوطالب. كما أن الفضل في ذلك يرجع أولا إلى جمعية البحث والتوثيق لآسفي التي تعتني بكل ما يتصل بتراث إقليم عبدة. ويرجع ثانياً إلى منجزه الأستاذ مصطفى فنيتير الذي جد واجتهد ليزيح الستار عن لحظة من لحظات تاريخ المنطقة تميزت على العموم بالتوجس والارتباك. إن هذه الرسالة تبرز إلى أي حد استفحلت الفوضى وأعمال النهب داخل القبائل وأصبح الجهاز المخزني المحلي غير قادر على ضبط الأمن، بل كان أحيانا متورطا في مثل هذه الأعمال، حيث لم يبق فرق بين "التابع والمتبوع"، ولعل صيغة الإنذار الواردة في النص استلزمت من بعض القواد ضرورة الاهتمام بالحالة الأمنية داخل إيالتهم. و"... القبض على كل من هو معروف بالسرقة أو القطع وتوجيههم في السلاسل للحضرة الشريفة، فقبضوا على عدد كثير من ذلك ووجهوا لمراكش، فامتلأت السجون بهم" وبذلك عادت الهيبة من جديد إلى المخزن المحلي حيث سيطر القواد على الموقف داخل ايالتهم، وادعنت الرعية لسطوتهم "حتى صار الرجل يبيع بيته ويأتي بما وجب عليه في الفريضة". لذلك يمكن اعتبار هذه الفترة بمثابة تركيز جديد لنفوذ القواد داخل جهات الحوز عموما، وفي هذه الفترة تألق نجم القائد عيسى بن عمر بصفة أكثر، حيث امتد نفوذه ليشمل كل قبائل عبدة وما جاورها. 2-امتداد نفوذ القائد إلى كل قبائل عبدة لا نتوفر على تاريخ مضبوط لنحدد من خلال ظهائر التعيين تاريخ توسع وامتداد نفوذ القائد عيسى بن عمر على كل قبائل عبدة، إلا أن لدينا من الإشارات ما يوضح أنه مارس سلطة واسعة، تجاوزت حدود قيادة البحاثرة. فقد استطاع القائد بمساعدة المخزن القضاء على انتفاضة اولاد زيد، وتمكن بعدها من تهدئة احوال عبدة بشكل نهائي، وهذا ما جعله مرشحا لبسط سلطته على قبائلها. إن القائد كان ملحوظا من طرف المخزن المركزي، وكان يتمتع بثقة الوزير الوصي احمد ابن موسى، بل كان من حاشيته، وهذا ما يفسر كذلك انتشار نفوذه على قبائل عبدة. فحوالي سنة 1896م امتدت إيالة القائد عيسى ابن عمر لتشمل قبيلتي الربيعة والعامر وأصبح بذلك قائدا على كل قبائل عبدة، ويشير "فايسجربر: » Weisgerber الطبيب الخاص للوزير احمد بن موسى آنذاك والذي تعرف على القائد سنة 1898م أثناء إحدى حركات السلطان المولى عبد العزيز قائلا: "...إن القائد كان في أوج قوته، وتمتد مناطق نفوذه من الوالدية إلى تانسيفت ومن البحر إلى مشارف مراكش على بعد ستين كلمترا، لكن إشعاعه كان يمتد لأكثر من ذلك على جانب من دكالة والرحامنة وشيشاوة والشياظمة وحاحا..." ومما تؤكده الوثائق المخزنية التي بين أيدينا أن القائد كانت له كلمة مسموعة لدى المخزن المركزي، وله رأي في كثير من القضايا التي كانت تطرح بالنسبة للمخزن المحلي، سواء داخل عبدة أو خارجها، وهو الذي كان يعالجها، وتبعث له الظهائر الرسمية لتصفيتها حيث" ... أعطاه السلطان المولى عبد العزيز ظهائر على بياض لتسمية وخلع من يريد من القواد الخاضعين لسلطته..." ولدينا نماذج من مراسلات، تبرز أن القائد عيسى ابن عمر كان هو الواسطة بين المخزن المركزي وبعض القواد في جهات أخرى، وهذا ما يؤكد امتداد نفوذ القائد خارج حدود عبدة، واعتماد المخزن المركزي عليه في فصل كثير من قضايا المخزن المحلي في جهات أخرى. فبعد قيام بعض الاضطرابات داخل إيالة القائد "احم بن سالم" بسبب سلوك أحد الأشياخ على فخدة اولاد علي والغوات، وهو الشيخ الحاج احمد بن الطاهر العلوي، طلب القائد المذكور من القائد عيسى بن عمر أن يتدخل لدى المخزن المركزي ليأمره بالقبض على الشيخ المذكور، مقابل أن "... يؤدي لجانب بيت المال عمره الله ثلاثة آلاف ريال، يأتي بها في العيد..." وفعلا أصدر المخزن المركزي أمره بالقبض على الشيخ المذكور وتوجيهه لسجن أزمور. ثم إن القائد قدور المولاتي، قدم عند القائد عيسى بن عمر قصد التدخل لدى المخزن المركزي من اجل التوسط لإطلاق سراح ابن عمه عبد القادر الذي كان مساعدا له في كل أمور القيادة، وهو الذي كان يتولى أمر القبض على "الفساد" :"... وحيث رأت القبيلة القبض على ابن عمه وقع فيها القيل والقال بكونه غير مقبول عند المخزن" فأجابه القائد عيسى بن عمر بقوله : "أن تسريحه أولى لتسكين روعة إخوانه، وطلبت مباشرة تسريحه وصار بالبال بعد اطلاع العلم الشريف، وأمر مولانا أعزه الله بأن تواعده وحيث ترد في العيد إن شاء الله، يظهر..." وبذلك رجعت الهيبة من جديد إلى المخزن المحلي حتى سيطر القواد على الموقف داخل إيالاتهم وأذعنت الرعية لسطوتهم "حتى صار الرجل يبيع بيته ويأتي بما وجب عليه في الفريضة". كما نعثر في رسائل أخرى، على مجموعة من القضايا، كانت تهم مشاكل قواد آخرين، عرضها القائد عيسى بن عمر على المخزن المركزي طالبا منه إصدار: "الأمر إلى القائد العياشي العبدي بأعمال الصلح مع ولده بوشعيب السعيدي، وتسريح السيد خلوق الغنيمي من سجنه، والأمر للقائد العربي ابن الشرقي المزابي بالكون على البال من إخوان القائد بوعلي الفرجي، النازلين بإيالة بن خمليش، وصار بالبال بعد اطلاع العلم الشريف". وتوضح الرسالة أن الأمر بإقرار هذه المطالب كان يصل إلى القائد عيسى بن عمر، ليتولى هو الإشراف على تنفيذه"... والأوامر الشريفة بذلك تصلك صحبته" وهذا تأكيد على أن القائد كان يمارس بالفعل سلطة واسعة، وكان "... على رأس إمارة حقيقية في الجنوب، وإن لم تكن القيادة ذات الأهمية القصوى في كل المملكة..." لقد كانت تدخلات القائد لدى المخزن المركزي تجد القبول دائما، فقد "طلب الإنعام على الطالب محمد بن مبارك الغندوري بجعله أمينا على إخوانه الغنادرة". ووافق السلطان على ذلك، وبعث للقائد بظهير التولية، ليتولى هو نفسه تسليمه للمعني كما قدم شفاعته في تسريح أحد المسجونين... فقبل أعزه الله شفاعتك فيه، وأمر بتسريحه كما كان طلب شفاعة القائد في تسريح بعض المسجونين، مقبولا دائما لدى المخزن المركزي، فقد سرح عمر الطيموي بطلب من القائد كما سرح الغندوري والمنقاري وأنعم عليهما بما تيسر من الزرع وفق طلب القائد. 3-علاقة القائد بالوزير المنبهي وما ترتب عنها كان المهدي بن العربي المنبهي مقربا لدى الوزير احمد بن موسى"... محظيا عنده وكأنه روحه، وقد جعله عاملا كبيرا على قبائل شتى، ينوب عنه في ملاقاة الناس العظام. ومنذ ذلك الحين بدأ المنبهي يطمح إلى تدعيم مركزه داخل الجهاز المخزني المركزي، وفعلا بعد موت الوزير احمد بن موسى سنة 1318ه/1900م عين المنبهي وزيرا للحربية وأخذ يتقرب من السلطان"... بمثل ما كان احمد ابن موسى يمنعه منه، كأنواع الملاهي وإدخاله في إدارة الأمور، لأنه كان دئما لا يستشير سواه" ثم شرع المنبهي في توسيع دائرة نفوذه داخل الجهاز المخزني، وأطلق يده في العطاء بسخاء لما كان بيده من الأموال وسرعان"... ما تكونت لديه حاشية طويلة تناهز حاشية احمد بن موسى... وكان... يتسكثر في صفوفه كل من تصل إليه قوته كقواد القبائل وغيرهم...". وكان القائد عيسى بن عمر من حاشية الوزير المنبهي، إن لم يكن من أهم دعائمه داخل قبائل الحوز، لذلك بمجرد غياب المنبهي في سفارة إلى أوربا سنة 1309ه/1901م، وجد وزير البحر محمد المفضل غريط الفرصة مواتية لتقليص دور المنبهي وعزل كل من القبض على القائد بن عمر وسجن بسجن مصباح، وصدر الأمر بمصادرة أملاكه، فتوجه قائد المشور قدور بن الغازي، ونزل على قصبته بعبدة في نحو "...ألف من العسكر والأمناء والعدول من أسفي والعامل حمزة بن هيمة وعمال دكالة وأزمور والجديدة... ووقع بقصبة القائد النهب بعد أن فر عياله وأولاده، وتسلل المساجين من القصبة ليلا" وانتهبوا أموالا ودخائر وذهب متاع القائد شذر مذر". ولما بلغ المنبهي خبر الانقلاب الذي وقع عليه وفي غيبته، عاد مسرعا من سفارته، وكانت تحبك مؤامرة لاعتقاله حين وصوله، لكن حاشيته بادرت إلى تحذيره قبل أن يقع في الفخ. وكان المولى عبد الحفيظ من شيعة المنبهي، فانتدب أحد أعوانه وهو إدريس منو الذي يقول: "فانتدبني مولاي عبد الحفيظ على أن أتصدى لملاقاته هناك لئلا يقع في الفخ". وبعد نزوله بالجديدة، يوم الجمعة 9 ربيع الثاني عام 1319ه/1901م قابله إدريس منو وقت النزول وأخبره بكل تفاصيل المؤامرة، فرتبوا حيلة الدخول إلى مراكش ليلة يوم الأحد 12 ربيع الثاني من نفس السنة. "... وما علم به أحد حتى كان في داره بالقصبة، بجوار دار السلطان" وبعد التقائه به أقنعه المنبهي بضرورة التراجع عن كل ما قرره في غيبته، وأخذ وعدا بإطلاق سراح صديقه القائد عيسى بن عمر، فصدر الأمر السلطاني بنقض كل ما أبرمه الوزير محمد المفضل غريط ومن ذلك "... تسريح عيسى بن عمر وأولاده الثلاثة ورد أمتعته المأخوذة له كلها". وتشير بعض الكتابات الأجنبية، إلى أن القائد "... عرف كيف يجلب إلى قضيته اهتمام قناصل الدول الأجنبية، المقيمة بأسفي" وإن ضغطا انجليزيا مورس من طرف قنصلها بأسفي، لمطالبة السلطان بالإفراج عن القائد فهل كان هذا الموقف بإيحاء من الوزير المنبهي لما كان في سفارته ؟ أم أنه كان بسبب العلاقة التي كانت تربط القائد ببعض المؤسسات التجارية الانجليزية بأسفي؟ ومهما يكن فإن الأمر بإطلاق سراح القائد عيسى بن عمر قد أصبح نافذا، ولما أمر بالخروج من السجن أبي إلا أن يخرج معه من كان من قبيلة عبدة المسجونين على يده، وعلى غير يده لما فعلوه معه من الخير عند سجنه وتذكر الرواية الشفوية، أن بعضا من مسجوني قبائل عبدة حاولوا الاعتداء على القائد، والاستهانة به داخل السجن، إلا أن جماعة منهم، ومن بينهم بعض اولاد زيد تصدوا لهم، وقاموا برعاية القائد وخدمته طوال مدة اعتقاله التي دامت إحدى وعشرين يوما، لذلك كافأهم"...وسرحوا جميعا..." مما أعاد للقائد مكانته وسمعته داخل عبدة، وجددت له ظهائر التعيين بتاريخ 14 ربيع الثاني عام 1319ه/1901م وبعد التحاقه بقصبته، عمت الفرحة كان أرجاء عبدة، حيث لازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ ببعض مظاهر هذه الفرحة وبعث القائد برسائل إلى كل جهات عبدة ومن بينهم جوار مدينة أسفي لأخبارهم بإعادة توليته، يقول فيها: "فإن مولانا دان علاه قد ولانا على جميع إيالتنا التي كانت عندي كافة". وتأكد للجميع بعد ذلك، أن القائد عيسى بن عمر أصبح أكثر قوة ونفوذا من ذي قبل وصار يمارس سلطة واسعة ومطلقة، مدعمة من طرف المخزن المركزي بمن فيه السلطان ووزيره المنبهي.