خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    بعد صدور مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالان.. الرباط مطالبة بإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الإله بلقزيز مفرد بصيغة الجمع
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 21 - 07 - 2015

إنّنا أمام علامةٍ فارقةٍ في الثقافة والفكر العربِيَيْن، وهذا بائنٌ في مُنْجَزه المتعدد. مُنْجَزٌ فكريٌّ، وآخرُ مُسائِلٌ للراهن العربي والعالمي، وآخرُ أدبيٌّ وإبداعيٌّ. فالنظر إلى هذه الأبعاد الثلاثة يلزم من متتبعه قراءة 46 كتابا إلى حدود الآن، والبقية قادمةٌ لا محالة. لذا حاولنا التحاور معه في هذه المجالات، إلا أننا حصرنا الحوار الأول في البُعد الأخير من مُنجزه، عسانا نُتابع الحوار معه في السنة القادمة، وكل ذلك من أجل تقريبٍ عامٍّ لهذه الشخصية المائزةِ في ثقافتنا المغربية والعربية للقراء.
لقد حاولنا خلال سِتِّ لقاءات على مَدَى شهرين الحوار معه انطلاقاً من أسئلةٍ حول الكتابة الروائية، وحول الحرب في لبنان، والأفق السحري في نصيه «رائحة المكان» و«ليليات»، إضافةً إلى النوافذ التي فتحها لنا على ضفاف شخصيته، والظلال التي تحيط بها من قبيل الشعر، الغناء، الموسيقى، بيروت، وعلاقته بشخصيات سياسية وفكريةٍ تواصل معها بطريقة أو أخرى... وبالجملة فإن الإنصاتَ إلى عبد الإله بلقزيز يرفعك إلى مساءلة الجوانية فِيكَ/فينا: كما لو كان الإنصاتُ إليه يحملك إلى آخَرِكَ. هنا تكمن المتعة الفائقة، تستدرجك نحو عوالمَ أرحبَ، تكون فيها الكتابة التزاماً إن لم نقل الشرط الوجودي للكائن. لكن كيف ورطناه في هذا الحوار؟ علماً أنَّه لم يعطِ أيَّ حوار منذ ما يزيد عن عشرين سنةً باستثناء ما قدَّمته القنوات العربية كالمنار، والميادين.. لا أقول إنِّي كنت محظوظاً في تهريبِ صرامَتِه العلميّة إلى القراء. بل أقول له شكراً لأنّه فتح لنا نوافذه، مثلما أشكر الصديق محمد رزيق الذي ساعدني في تفريغ هذا الحوار.
o الموسيقا؟
n الموسيقا أيضاً ترافقني يومياً. طبعاً أنا لا أستمع الى الموسيقا وأنا أشتغل. هذه عادة سيئة درج عليها كثيرون؛ بل إنّي أجد في هذا السلوك احتقاراً شنيعاً للموسيقا، وكأن الموسيقا لا وظيفة لها سوى أن تملأ الفراغات! إذا أردت أن تستمع إلى الموسيقا عليك أن تخصص لها وقت سماع ساعة أو ساعة ونصف أو ساعتين. إمَّا في البيت أو كما يحصل لي في السيارة انتقالاً بين الدار البيضاء والرباط ذهاباً وإياباً. معي دائماً نصوص موسيقية، إما سمفونية أو حديثة معاصرة عربية وغير عربية. طبعاً الموسيقا لها طقس للاستماع؛ لا يمكنك أن تستمع اليها في أي وقت أو في أي لحظة. ينبغي أن تتهيأ لسماع الموسيقا؛ على الأقل هذا ما أفعله أنا. وفي اللحظة التي أتهيأ فيها، أحرص على أن يكون الضوء خافتاً، وعلى أن أقفل الهاتف المحمول، وأرفع سماعة الهاتف الأرضي عن مكانها حتى لا يزعجني التلفون. أسمعها - حينها - كما لو أنني أُؤدي طقساً روحياً، وأحياناً لا أكمل النص نفسه؛ آخذ، مثلا، مقطعاً لفاغنر، أو موزارت، أو برامس، أو عمر خيرت، أو مرسيل خليفة (أعماله الموسيقية خاصةً مثل «غنائية أحمد العربي»، أو «حلم ليلة صيف»، أو «بساط الريح»، أو»كونشرتو الأندلس»، أو»شرق»...) فأستمع إلى مقطع قصير، ثم أعيده وأعيده ثلاث مرّات أو أربع، لأنني أعرف تماماً أن هذا النصَّ نصٌّ مُرَكَّبٌ. وفي كل لحظة استاع، أركّز على آلة: مثلاً في لحظة السماع الأولى أركّز على الترومپيت، لحظة السماع الثانية أركز على الكلارينيت، لحظة السماع الثالثة أركّز على الڤيولونسيل (آلة الكمان الكبرى)، الرابعة أستمع إلى الكمان أو إلى الوتريات...الخ. بهذه الطريقة - التي هي طريقة فلسفية تحليلية للنص الموسيقي - أستطيع أن أكتشف الأبعاد المختلفة في كل أداء: بالوتريات، بالنحاسيات، أو آلات النفخ، الإيقاع: إما الإيقاع الذي يكون على الطبلة أو الإيقاع الذي يكون على التشيلو أو على الكنترباص، و مدى تلاؤُم أو تناغم الاَلات في تقديم الجملة الموسيقية. علاقتي بالنص ليست علاقة استمتاع فحسب، هي أشبه ما تكون بعلاقة معرفية؛ أصغي وكأنني أحلّل نصاً فكرياً فأحاول أن أكتشف كيف يُبْنى؛ كيف تُبْنى جُمله. لذلك لا أشعر، وأنا أستمع إلى الموسيقا أنني خارج الفكر. طبعاً هذا لا يعني أنني لا أعشق الطرب؛ حينما أستمع الى سيّد درويش أو الشيخ زكريا أحمد أو كلاسيكيات محمد عبد الوهاب، أو أغاني عبد الحليم حافظ ووديع الصافي واسمهان أو بعض أعمال أم كلثوم أو بعض أعمال فيروز التي فيها طرب ( بالمعنى الشرقي: العربي والبيزنطي)، فأنا أستمع إلى نصوص تنتمي إلى الطرب. ولكن القاعدة عندي أن الطرب ليس هو الموسيقا، لأنه يخاطب الجسد ولا يخاطب الروح والعقل.لذلك أحاول، في علاقتي بالموسيقا، أن افرض عليها شروطا ليست مألوفة ولا معتادة، قد تكون عند المتخصصين رغم أن أنا لست عالماً في الموسيقا، ولكنني أشعر بأن مشاعري، إحساساتي، عقلي، تميل إلى اللغة الموسيقية، وتجد في اللغة الموسيقية مبتغاها. أنا قلت في جواب سابق، إن علاقتي بالصورة، مثلا، علاقة باهتة، ولديَّ فقر شديد في الثقافة البصرية. أشعر أن ثقافة الأذن، كما قلت سابقاً، أغنى وأرحب عندي من ثقافة العين، ولا أتصور الحياة بدون موسيقا. حينما أقول الموسيقا لا أقول الغناء؛ أتحدث عن الموسيقا. ولذلك فالغناء الرفيع عندي هو الغناء الذي يحاكي الموسيقا. لماذا شغفي بصوت السيدة فيروز مثلاً؟ لأن في صوت فيروز موسيقا هذه المسالة انتبه اليها مرسيل خليفة حينما قدم مجموع أغنيات أميمة الخليل من دون مرافقة موسيقية. تؤدي الأغنيات بصوت مجرد عارٍ فتكتشف الموسيقا في الصوت النسائي. هذا هو ما اكتشفت انه يجذبني الى صوت فيروز. إلى حد ما أنجذب الى صوت اسمهان، أيضاً، سواءٌ في أغانيها التي وضعها فريد الأطرش، وخاصةً في أغانيها الرائعة التي وضعها لها محمد القصبجي، وكانت ثورة في مدرسة التلحين المصرية التي استطاع القصبجي أن يُدْخِل فيها بعض تقاليد الكتابة الموسيقية للأغنية في بلاد الشام (لبنان وسورية)، وخاصة طريقة تركيب الجملة الموسيقية، مع بعض التحرّر من قيود السَّماعي والبَشَارف السائدة. السيدة فيروز، مثلا، إذا استمعت إلى عملها الغنائي الرفيع «الجمعة الحزينة»، وهو تراتيل دينية، من دون موسيقا ما خلا، أحياناً، موسيقا الكنيسة، أي مرافقة آلة الأرغن للتراتيل، ستكتشف سرّ موسيقا الصوت. في هذه التراتيل باليونانية وبالغة العربية ما لا تقوى موسيقا على أن تحوّله الى نصّ يضارع أو يضاهي في الجمال الأداء الفيروزي. هذا الصوت هو أعلى مراتب الموسيقا. ولكن ليست الأصوات جميعها قادرة على أن تحاكي الموسيقا بما في ذلك هذه الأصوات التافهة الكمبيوترية التي تخرج اليوم لكي تزين الصوت المتوحش أو البشع ! لا أدري لماذا لم تعد ثقافتنا تنتج أصواتاً جميلة تحمينا من هذه الأصوات المبحوحة والتافهة، الزاحفة بالمئات عبر الإذاعات والشاشات، التي تعتدي على أذواقنا كل يوم. الثقافة التي كانت تصنع سيّد درويش، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، واسمهان، وفيروز، وعبد الحليم، وصباح فخري، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، ومحمد عبد المطلب، وعبد الهادي بلخياط، ومحمد الحياني...، تبدو وكأنها تصرّمت لتُخليَ الساح لثقافة النِّفط والغاز: التي تستولد آلاف «المطربات» و»المطربين» من عدم، وكأنهم يخرجون من ماكينة تفريخ «الدجاج الرومي» !
o ماذا أضافت لكم الجوائز التي حصلتم عليها مؤخراً؟
n ماذا أضافت؟ تقصد ماذا أضافت في عملي الفكري والعلمي. لا لم تُضِفْ لي شيئاً، ولا أعتقد أنها أضافت لي الكثير مادياً. ولكن قيمتها الحقيقية في أنّها تمنحك اعترافاً علمياً بك من قِبَل جهة علمية مأذونة هي لجنة التحكيم التي اتخذت قراراً يمنحك جائزة. هذا فيه اعتراف رمزي غني. وهي تقليد جيد لتشجيع المثقفين والثقافة والتنافس الثقافي، وأحسب أن رصد مبلغ من المال للإنتاج الثقافي - وإن كان متواضِعاً - أفضل ألف ألف ألف ألف مرة من أن يرصد للمغنيات والراقصات والخيالة الذين يركبون الأفراس ويأخذون الجوائز، أو لاعبي التنس أو غيرهم، كما لو أن تلك الفئات، أعلى شأواً وأعلى شأناً من المثقفين والعلماء والمبدعين !
o مؤخراً كانت ضجة إعلامية حول بعض الجوائز كجائزة «البوكر» أو جائزة الإمارات أو جائزة المغرب. بِمَ يتعلق الأمر في مثل هذه الأوضاع التي تثير مثل هذا الضجيج؟
n هناك مشكلة في ما يتعلق بالجوائز تتصل بمستوى النزاهة والشفافية في التحكيم. في بعض الجوائز العربية قدر محترم من النزاهة والشفافية يضفي الكثير من الصدقية على تلك الجوائز وعلى النتائج المعلنة. ولكن في أغلب الجوائز هناك زبائنية، وهناك تحيُّف وانحيازات سافرة لأسباب قطرية، أو تتعلق بالصداقات وما إلى ذلك. وأنا لا أخفيك أن جائزة «البوكر» واحدة من هذه الجوائز المطعون في شرعيتها، مع أنها دولية! وذلك بسبب هذه الاصطفافات إما المبنية على اعتبارات الصداقة أو المبنية على اعتبارات الانتماء الوطني أو القطري، أو تدخّل الناشرين في التحكيم! ولذلك أكتشف أن بعض النصوص التي تُعلن نصوصاً فائزةً هي دون مستوى النصوص التي تنافست معها. أستثني من ذلك فوز المستحقين مثل يوسف زيدان ومحمد الأشعري. أما ما بعدها فلا أعتقد أن نصاً من النصوص التي أعلن عن فوزها يستحق أن يكون الفائز، وآخرها الجائزة الأخيرة. أنا قرأتُ رواية «ممر الصفصاف» لأحمد المديني وهي كانت مرشحة للفوز بالجائزة ولم تفز. وقرأت الرواية الفائزة وأحسب أن رواية أحمد المديني أحقّ؛ ليس لأنه صديقي ولكن لأن عمله أرصن. هذه مشكلة كبيرة في لجان التحكيم. وأما في المغرب فأنا كنت دائماً أعتذر عن الدعوات التي تُوجَّه لي إمّا للعضوية في لجان التحكيم أو لرئاسة لجنة الجائزة حتى لا يدخلني ذلك في مشكلات مع الأصدقاء، لأنني أعرف أننا ما نزال بعيدين فعلاً عن التشبع بالنزاهة والموضوعية في مجال التحكيم العلمي.
س: تحدثم عن تمكنكم من اللغة الانكليزية منذ الصعر. ماذا تعني لكم هذه اللغة، إلى جانب اللغة العربية والفرنسية؟
ج: اليوم، شئنا أم أبينا، وبصرف النظر عمّا يمكننا أن نسميه بالعلاقة الذوقية باللغة (أشعر، مثلا، أني أتذوق جماليات اللغة العربية واللغة الفرنسية أكثر مما أتذوق جماليات اللغة الانكليزية)، إلا أنني شديدُ الاقتناع وهذا أعرفه اعرفه بالدُّربة والمِراس والخبرة ومعطيات الواقع أنه إذا لم يتملك المرء اليوم اللغة الانكليزية فإنه، شاء أم أبى، يضع نفسَه خارج نطاق المعرفة الإنسانية؛ لأن اللغة الانكليزية، اليوم، هي لغة المعرفة؛ سواء المعرفة العلمية، أي المتعلقة بالعلوم الطبيعية والدقيقة وغيرها أو الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. وليس صحيحاً أن العلاقة باللغة يحكمها دائما الموقف النفسي المنجذب إلى لغة ما. أحياناً أسأل كثيرين عن صلتهم باللغة الانكليزية فيقولون إننا ننفر من هذه اللغة. طيب، إذا كنت تنفر من اللغة يمكنك أن تنفر من أي شيء إن لم تأخذ نفسك بالحزم والشدة لكي تتعلمها وتتقنها. ليس مطلوباً منك أن تكون فيها فقيهاً، ولكن أن تتقن القراءة بها. إنك تحكم على نفسك، بهذا النفور، بأن تكون خارج السباق. نحن نعتز باللغة العربية، ونتمسك بها، وندافع عنها كآخر خندق لنا. ولكن لا ينبغي أن تكون هذه اللغة هي الشجرة التي تخفي الغابة؛ أن تمنعنا من رؤية هذا المدى الفكري المعرفي والثقافي والإبداعي والإنساني المكتوب بلغات أخرى. أستطيع أن أقول، إن من لا يستطيع أن يقرأ بالانكليزية، اليوم، هو في عداد الأميين. وهذا الكلام ينبغي أن يسمعه الفرنكفونيون في بلادنا؛ هؤلاء الذين يحسبون اللغة الفرنسية على الرغم من التسليم بكل فتوحاتها العلمية في ما مضى تكفي وحدها لكي تُدخلهم في نطاق العالمية. أخشى من أن تكون اللغة الفرنسية في هذا البلد قد تحولت الى عائق أمام الكونية؛ لأن المدخل الى الكونية، اليوم، شئنا أم أبينا، هو اللغة الانكليزية. لا أحد يستطيع أن يتهمني بأنني أنكلوفوني، ولكني أعرف، من خلال تجربتي في البحث العلمي، أن الانكليزية هي اللغة كتب بها خلال المائة عام الأخيرة أهم مصادر المعرفة الإنسانية إلى جانب اللغة الألمانية (التي فقدتها، من أسف شديد، ولا أستطيع أن أستعيدها لأن قدراتي الآن على التخزين وحفظ الأشياء أضأل بكثير مما كانت قبل أربعين عاماً). وأنا هنا أنصح من يريد أن يرى في ابنه ما لا يجده في نفسه، أن يعلّم ابنَه، اليوم، ثلاث لغات إلى جانب اللغة العربية :الانكليزية والألمانية والصينية. هذه هي لغات المعرفة، لغات المستقبل هذه ليست معركة ضد الفرنكفونية، لأنني أنا أيضاً متشبع بالثقافة الفرنسية وأحترم الثقافة الفرنسية وأعرف تماماً أن اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية أدّتا مهمات جليلة في المعرفة الإنسانية، قبل خمسين عاماً أو يزيد، لكنها اليوم لم تعد قادرة على مجارات الثقافات العالمية الأخرى التي تكتب بلغات أخرى. اليوم في فرنسا، في قلب فرنسا، إن لم تتعلم الانكليزية، كما كان الجيل الفرنسي (جيل التنوير في القرن العشرين أي جيل الخمسينيات والستينيات) يتعلم الألمانية، فأنت لن تكون قادرًا على المنافسة الثقافية. هذا موقفي من اللغة الانكليزية بمعزل عن أي اعتبار سياسي. أنا كنت وما أزال وسأظل، حتى آخر رمق، جندياً في مواجهة السياسة الأمريكية في العالم كله وفي منطقتنا العربية. هذا لا علاقة له بشأنٍ ثقافي معرفي صرف، وإلا كان عليَّ أن أكون أيضاً ضد اللغة الفرنسية ما دامت فرنسا احتلت بلدي، وارتكبت كل تلك المجازر الاستعمارية التي ارتكبتها في مناطق احتلالها، وفي الريف مع الاستعمار الإسباني. وكما أنا حريص في الجامعة في دروسي، خاصة في الماستر، على استعمال اللغة الفرنسية مع الطلبة كنت أتمنى لو أن تكون تمة استجابة منهم للاتصال بالنصوص الانكليزية. جرّبتُ ذلك، قبل سنوات، فاكتشفتُ عُسْر علاقتهم باللغة الانكليزية، فأمسكتُ عن الاستمرار. وهم في هذا ليسوا مسؤولين تماماً. المسؤول هو النظام التعليمي المتهالك الذي يخرِّجُ تلامذة لا يتقنون أي لغةٍ من اللغات الثلاث!
س: بالنسبة إلَيّ شخصياً استفدت كثيراً من ذائقتكم اللغوية، خاصة في بعض الكلمات التي كنّا ننطقها بطريقة خاطئة، ولكن تحرصون بشكل دقيق على شكلها في الكتاب حتى تتبين وتظهر، وتمكُّنكم من اللغة العربية بشكل أضحى حتى بالنسبة إلى المتخصصين في اللغة العربية اللسانيين لا يستطيعون مقاومة القوة التي تكتبون بها على مستوى اللغة العربية. هذا، طبعاً، انطلاقاً من ضبط النص القديم أو سواء في النصوص الجاهلية (المعلقات) والعلاقة بلغة القرآن والنصوص الفقهية. وهو ما جعلكم تضبطون اللغة بشكل كبير وترقصون معها إن شئت. كيف هذه العلاقة عندكم باللغة العربية على هذا القدر من الاحترام والالتزام ليس فقط احترام القارئ و لكن احترام اليد التي تكتب هذه النصوص سواء الفكرية أو السياسية أو الأدبية؟
ج: هي مسألة بسيطة للغاية.
س: لاأعتقد.
ج: لا، صدقني؛ هي جدّ بسيطة. بالنسبة إليَّ أؤمن، أولاً، بأن إتقان اللغة العربية يقتضي ممّن يريد إتقانها العودة إلى الأصول الكلاسيكية، وإدمانها. ليس فقط العودة إليها بين الفينة والأخرى بل على نحو تُصبح فيه العودة إلى المصادر القديمة فعلاً برنامجياً يومياً؛ أن يقتطع المرء من وقته ساعة أو ساعتين يعود فيها إلى قراءة النصوص القديمة التي كتبت في القرون الهجرية الأولى، هذا إذا لم يعد إلى الشعر الجاهلي. لماذا أقول هذا لأن اللغة الدارجة المتداولة والرائجة، في كل ما هو منطوق ومكتوب، هي لغة الصحافة. وهذه، مع احترامي لها، ليست لغة المعارف. نِصْفُ هذه اللغة مترجم ترجمة غير موفقة ناهيك بأنه محمول على تراكيب لغوية لا تنتمي، في أغلبها، إلى اللغة العربية. لغتنا لم تغتن، بل بالعكس تدحرجت وتدهورت وانحطت لسبب بسيط؛ هو أننا لم نعد إلى الموارد المرجعية للسان العربي في القديم. الشعر وحده لا يكفي؛ صحيح أن الشعر القديم يزود مخزونك اللغوي بمادة هائلة، ويصحح الأخطاء التي أشرتَ إليها في نطق بعض العبارات. إن المشكلات الفونيتيكية (الصوتية) في اللغة العربية ناجمة من الحركات الإعرابية؛ لأنها عبارة عن حروف، ولكنها حروف مضمرة، إذا لم تقم بشكل الكلمة فأنت لا تستطيع أن تتقن نطقها. قلت الشعر القديم وحده لا يكفي؛ ينبغي العودة إلى الفقه، إلى التفسير، وإلى علوم القرآن، والتاريخ، وعلم الكلام، والتصوف، والفلسفة فاللغة العربية لم تبق محصورةً في النثر الفني. صحيح لدينا فطاحل في النثر الفني منذ عبد الحميد الكاتب، مروراً بعبد الله بن المقفع، وبالجاحظ، وابن قتبية، وصولاً إلى أبي حيّان التوحيدي. هؤلاء أعيش معهم كأصدقاء يومياً، ولكنّي أيضاً أعيش مع فقهاء يستلذُّ المرء حين يقرأ لمحمد بن إدريس الشافعي. ما أجمل لغة هذا الرجل، تبلغ به اللذة شأواً حينما يقرأ أبا المعالي الجويني صاحب كتاب «غياث الأمم في الْتِياثِ الظُّلَم». هناك تكتشف اللغة العربية، وتكتشفها في الفلسفة، أيضاً، مع الشيخ الرئيس ابن سينا؛ وما أدراك بابن سينا لا يضاهيه أحدٌ في اللغة: لا الكندي، ولا الفارابي، ولا أبو الوليد بن رشد. في التاريخ لديك أبو جعفر بن جرير الطبري واللغة الرفيعة التي يكتب بها، ولديك المسعودي صاحب «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، و لديك ابن خلدون واللغة البديعة التي يكتب بها هذا الرجل العظيم. في التصوف، مثلاً، هل نستطيع أن نستغني عن لغة الِّنفرِيّ؟ هل نستطيع أن نستغني عن لغة محي الدين بن عربي؟ لا نستطيع. فإذن كل هذا المخزون، كل هذا التراث العربي العظيم والجميل مهمل! كم من واحد يعود إليه؟ إلى فطاحل اللغة العربية في القرن التاسع عشر أمثال بطرس البستاني وأاحمد فارس الشدياق وإبراهيم اليازجي، وجرجي زيدان، وجبران خليل جبران، وصولاً إلى طه حسين. هؤلاء زادُهم كلُّه من هذا التراث الذي نُهمله ونعتبره كتباً صفراء! الكتب الصفراء هي، بامتياز، كتُبنا اليوم؛ هي صحفنا ومجلاتنا وكتبنا التي نُصدر. هذه القطيعة النكراء مع أصول اللسان العربي هي التي ولدت هذه الهجانة في الكتابة والنطق. لذلك أحرص أن لا أتحدث بالعامية في عملي الجامعي، وعلى أن أتحدث باللغة العربية، وحين أتحدث، أحرص على أن أستعمل ألفاظاً يَشيع الخطأ في نطقها، من أجل أن أصححها في أذهان الطلبة. أحياناً أقول مع نفسي، كم أستعمل العامية في اليوم؟ نادراً ما أستعملها إن قُورِنت المساحة الزمنية لاستعمال اللغة العربية الفصحى بمساحة استخدامها. حين تقرأ لساعات طوال في اليوم؛ وحين تفكر في موضوع؛ أو تتابع نشرة أخبار؛ أو تكتب وهذا قد يأخذ منك نصف يوم أو أكثره فأنت تستخدم الفصحى. هذه العلاقة باللغة قديمة عندي منذ مراهقتي، و شَحَنَتْهَا أكثر الفترة الخطابية الجامعية في إطار «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»؛ حيث كان محظوراً في ذلك الحين من السبعينيات أن يتحدث أحد بالعامية. طبعاً العامية لغتي، كما هي لغة الشعب، وأتواصل بها مع الناس والأهل والأصدقاء، ولكنها ليست لغةَ فكرٍ ومعرفة إلاّ لدى مَن يدافعون عن صيرورتها لغةً للتعليم لغَرَضٍ لا يخفى على أحدٍ: الإجهاز على اللغة العربية، وتمكين الفرنسية من العودة إلى السَّطو على الذهن واللسان والذاكرة! يعتقدون ذلك ممكناً، ونقول لهم: دون ذلك خَرْطُ القَتَاد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.