تحول المغرب خلال عقد ونصف إلى فاعل جهوي وقاري، يملك حضورا ملموسا في مجالات استراتيجية في القارة الإفريقية، كالاقتصاد الاجتماعي الذي يجعل المواطن الإفريقي في صلب العملية التنموية والقطاع البنكي الذي أصبح يغطي أكثر من أربعين دولة و قطاعات أخرى تعكس حاجة القارة إليها، ويضاف إلى هذا كله الثقل الديني والروحي للمغرب ، خاصة مع تفكك عدد من الدول في منطقة الساحل والصحراء وبروز الحركات الجهادية ، وتقديم المغرب لنموذج تدبير الحقل الديني والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وأخذ الحضور المغربي في القارة الإفريقية بعدا جديدا من خلال الزيارات الملكية لدول عدة في إفريقيا الغربية والوسطى ، خاصة محطتي باماكو في شتنبر 2013 وأبيدجان فبراير 2014 . حضور مغربي محصلة لعمل هيكلي مستمر ورؤية اتسراتيجية، فإن هذا الثقل لم ينعكس داخل الاتحاد الإفريقي، فرغم محدودية الدول المعترفة بجمهورية الرابوني ، وجلها موجود في إفريقيا الجنوبية الأنكلوفونية، ورغم أن المغرب أصبح رقما أساسيا في إفريقيا، فإن غيابه داخل الاتحاد الإفريقي يحرمه من واجهة سياسية، تعمل الدولة العميقة في الجزائر، وفي سياق تناحر مكوناتها الداخلية، على توظيف هذه الواجهة للحد من تموقعه الجديد داخل القارة، وهذا ما يفسر تعيين رئيس مجلس الأمن والسلم داخل الاتحاد الإفريقي وزيرا للخارجية الجزائرية، إضافة إلى تعيين مبعوث للاتحاد الإفريقي للصحراء، إضافة إلى أشياء أخرى. المراحل الأولى للدبلوماسية المغربية في إفريقيا وتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية لا يمكن فهم السياسة الخارجية المغربية مع الدول الإفريقية، دون الرجوع إلى المسار التاريخي للبدايات الأولى للدبلوماسية المغربية. في بداية الستينات من القرن الماضي عرفت بعض دول إفريقيا مسارات استقلال متميزة، جعلت تقاربها مع المغرب أكثر واقعية، فالكونغو مثلا، حصل على استقلاله من بلجيكا يوم 30 يونيو 1960، في نفس الوقت ظهرت مطالب انفصالية داخلية، فناشد باتريس لومومبا الأممالمتحدة، يوم 13 يوليو 1960، للحصول على مساعدة عسكرية من 3200 فردا لحل مشكل كاطانغا ، ليعلن المغرب عن قراره بإرسال قوات الى الكونغو تحت الرعاية الأممية. كان المغرب بهذه المساندة يعلن عن توجهه السياسي العام بشأن إفريقيا، توجه مناهض للاستعمار، وكان دعم الكونغو إشارة إلى ما يتعرض له المغرب من مناورات تقطيع ترابه، وفي هذا الإطار استقبل الملك محمد الخامس باتريس لومومبا في الرباط وبحضور ولي العهد مولاي الحسن، قائد القوات المسلحة. كان هذا الإعلان بمثابة توجه للمغرب كبلد مناهض للاستعمار. عندما أرسل المغرب جنوده إلى الكونغو بغض النظر عن نتائج المشاركة المغربية كان الأمر يدخل في سياق السياسة المغربية للحفاظ على الوحدة الترابية وضد أي تمزيق للتراب الوطني للدول الإفريقية، وهي رسالة ابتغى المغرب من خلالها، الإعلان عن موقعه كدولة تقدمية مناهضة للاستعمار. شكلت المبادئ المناهضة للاستعمار في إفريقيا، أرضية لاجتماع الدارالبيضاء أيام 47 يناير 1961 ، وكانت هذه الخطوة النواة الأولى لتجمع وحدوي إفريقي يجمع على السواء دولا من الشمال والجنوب، إضافة إلى تبني أفكار تحررية لحركات التحرير التي كانت تخوض حربا طاحنة ضد الاستعمار البرتغالي ونظام الأربتايد في دول جنوب إفريقيا، وهو السياق الذي جعل عددا من حركات التحرير الوطني تلجأ إلى الرباط لضمان المساعدة المادية والتأييد السياسي، ومن بينها حركات التحرير في أنغولاوجنوب إفريقيا وغينيا بساو والرأس الأخضر وغيرها، وهي نفس الحركات التي أخذت مواقف مناهضة للمطالب الترابية المغربية، لأن السياسة المغربية الداخلية أخذت مسارات جديدة مغايرة منذ 1962. لقد نشأت منظمة الوحدة الإفريقية من تجمعين أساسيين: مجموعة الدارالبيضاء ( المعسكر التقدمي) ثم مجموعة منروفيا ( الدول الفرانكوفونية والأنكلوونية والمستقلة المعتدلة). موازاة مع ذلك كانت طروحات المغرب قريبة جدا من بعض الدول الإفريقية " التقدمية " المناهضة للاستعمار. هذه الدول هي : مالي التي أخذت موقفا من فرنسا بعد فشل فدرالية مالي، ثم غانا التي أخذت موقفا صارما من التعديلات الدستورية الفرنسية المرتبطة بمستعمراتها الإفريقية، ومصر الناصرية ، دول تبنت المطالب الترابية للمغرب منذ غشت 1960، إضافة إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي كانت تخوض معركة تحرير الجزائر من فرنسا، إنها خمس دول أطلق عليها " مجموعة الدارالبيضاء". شكلت مبادئ مناهضة الاستعمار أرضية لاجتماع الدارالبيضاء في يناير 1961 ، وكانت هذه الخطوة النواة الأولى لتجمع وحدوي إفريقي و تبني أفكار تحررية لحركات التحرير الإفريقية. موازاة مع ذلك عقدت الحكومة المغربية مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، يوم 6 يوليوز 1961، مذكرة تفاهم تقوم على نقطتين أساسيتين: إعلان الدعم المغربي للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، في مفاوضاتها مع فرنسا، واحترام وحدتها الترابية، في سياق كانت فرنسا تحاول فصل الصحراء الجزائرية عن باقي التراب الجزائري، مقابل اعتراف جزائري بمشكلة الحدود المفروضة تعسفا بين البلدين، مشاكل ستجد حلولها بعد استقلال الجزائر عبر مفاوضات بين الحكومتين المغربية والجزائرية. وجاء في خاتمة هذا البروتوكول الوقع بين الطرفين: " ونتيجة لذلك ، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تعيد التأكيد على أن الاتفاقات التي ستنتج على المفاوضات الفرنسية الجزائرية لن تكون موضوع معارضة للمغرب حين ترسيم الحدود المغربية الجزائرية". وكان واضحا من هذا البروتوكول، وخاصة الفقرة الأخيرة منه، أن كل ما سيتفق بشأنه مع فرنسا حول الحدود لن يكون مرجعا لرفض جزائري للمطالب الترابية المغربية. كما تقرر حينها إنشاء "لجنة جزائرية مغربية لدراسة موضوع المطالب الترابية المغربية، وإيجاد حل بروح من الأخوة والوحدة المغاربية". العمق التاريخي للمغرب داخل إفريقيا و تبني المغرب لعدد من حركات التحرير الإفريقية، ومساهمته في تأسيس مجموعة الدارالبيضاء في يناير 1961، كل هذا طبع علاقات المغرب مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، والتي كانت لا تخضع لاعتبارات سياسية أو دبلوماسية، بل لعمق تاريخي كبير ، ولذلك شكلت المطالب الترابية وما زالت عصب العلاقات المغربية الإفريقية. لعبت الدبلوماسية المغربية في فجر استقلال المغرب دورا أساسيا في تجميع هذه الدول تحت راية الدول التقدمية المناهضة للاستعمار، وكيف أن المطالب الترابية منذ فجر الاستقلال حددت التوجهات الدبلوماسية للمغرب على صعيد القارة الإفريقية، وكان من الصدف أن الدول التقدمية وذات التوجه الاشتراكي في إفريقيا، هي التي ساندت المغرب في خطواته نحو استكمال وحدة التراب، ومن هنا نفهم حضور عدد من حركات التحرير الإفريقية في المغرب، والدعم العسكري والدبلوماسي والسياسي الذي قدم لها وبسخاء من لدن المغرب، بيد أن هذه الدول نفسها ستقف موقفا عدائيا إزاء المطالب المغربية في الصحراء، منذ عودة هذه الأقاليم إلى المغرب أواسط السبعينات. في هذا السياق التاريخي السياسي بنى المغرب علاقاته مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، وإذا كانت المطالب المغربية قد وجدت صدى وقبولا بين 1956 و1961، فلأن النظام السياسي بالمغرب تبنى حركات التحرر الوطنية الإفريقية، وهي المهمة التي ستتولاها الحكومة الجزائرية فيما بعد، بدءا من تاريخ حصولها على الاستقلال في العام 1962، وضع لعب دورا كبيرا في تبني عدد من الدول الطرح الجزائري بخصوص عودة "الصحراء الغربية" إلى المغرب. مع تحول النظام السياسي المغربي في بداية حكم الملك الحسن الثاني، بدأت حركات التحرير الإفريقية تنتقل إلى الجزائر، التي أصبحت قبلة الحركات التحررية في العالم، وكان الدعم الناصري للجزائر حلقة في المواجهة التي كانت قائمة بين الغرب ومصر في ذلك الوقت، ويحتضن كتاب فتحي الديب، قائد المخابرات المصرية زمن عبد الناصر المئات من الوثائق التي تبرز حينها الدور المصري في دول المغرب الكبير. وستدل الأحداث فيما بعد أن علاقات المغرب بالدول الإفريقية جنوب الصحراء ستتكيف نتيجة لهذا الصراع بين الدول الكبرى داخل إفريقيا. إن التحول السياسي المغربي الواقع في بداية الستينات في المغرب، ومساهماته في عدد من المهمات الأمنية في إفريقيا إبان الحرب الباردة حول تموقعه داخل الساحة الإفريقية. في هذا السياق التاريخي السياسي تم تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، في 25 ماي 1963، إذ اندمجت مجموعة الدارالبيضاء " التقدمية" مع مجموعة منروفيا " المعتدلة" بأديس أبيبا، في عهد إمبراطور الحبشة هيلا سيلاسي. من مواثيق منظمة الوحدة الإفريقية المصادقة عليها ما جاء في الفقرة الثالثة من البند الثالث من ميثاق المنظمة، ما تعلق ب"احترام سيادة ووحدة أراضي كل دولة وحقها غير قابل للتصرف في الوجود المستقل"، وهذا ما يعني إجازة بناء الحدود دون المس بما تركه الاستعمار، ومن هنا تحفظ المغرب، عند انضمامه لمنظمة الوحدة الإفريقية في شتنبر 1963، على هذا البند الثالث الذي كان يتعارض مع مطالبه الترابية، وجاء في تحفظ المغرب، ما ترجمته " إن حكومة جلالة الملك لن تتنازل بأي شكل عن حقوقها المشروعة باستعادتها بطرق سلمية للوحدة الترابية للمملكة في حدودها الحقيقية"، أي أن انضمام المغرب إلى المنظمة الإفريقية لم يكن يعني التنازل عن مطالبه الترابية. ومن هنا تحددت سياساته الدبلوماسية في مسار منظمة الوحدة الإفريقية إلى حين مغادرته لها سنة 1984. يجب التذكير بأن البند الثالث من ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية، و الذي استمر مع الاتحاد الإفريقي، شكل حصان طروادة للحكومات الجزائرية في تبني أطروحة فصل "الصحراء الغربية" عن المغرب، لكن تم تجاهله وبإصرار حين عمل ثابو امبيكي الجنوب الإفريقي على فصل جنوب السودان عن شماله. الإرث الاستعماري الفرنسي الإسباني ومتاعب المغرب في سياساته الخارجية قامت استراتيجية فرنسا في أواخر الخمسينات وبداية الستينات على عزل المغرب عن عمقه الإفريقي، وإضعافه ترابيا، خوفا من أي انعكاس لهذا التمدد الترابي للمغرب على وجود فرنسا في الجزائر، ولعبت قضية موريتانيا رأس الرمح في هذه السياسة. موازاة مع ذلك وفي مفاوضات الاستقلال وما تبعها عرضت فرنسا على المغرب النظر في قضية الحدود المغربية الجزائرية، لكن المغرب رفض أي مناقشة لهذه القضية قبل استقلال الجزائر، على اعتبار أن كل مناقشة من هذا القبيل هي اعتراف بالاستعمار الفرنسي لأرض الجزائر. لم يكن العرض الفرنسي بريئا، إذ اشترط فتح هذه المفاوضات شريطة وقف الدعم المغربي لجبهة التحرير الجزائرية، وكان السياق السياسي والدبلوماسي للمغرب آنذاك يتعارض مع هذه المقترحات الفرنسية. مقابل ذلك عقدت الحكومة المغربية مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، يوم 6 يوليوز 1961 مذكرة تفاهم تقوم على نقطتين أساسييتين: إعلان الدعم المغربي للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، في مفاوضاتها مع فرنسا، واحترام وحدتها الترابية، في سياق كانت فرنسا تحاول فصل الصحراء عن باقي التراب الجزائري، مقابل اعتراف جزائري بمشكلة الحدود المفروضة تعسفا بين البلدين، مشاكل ستجد حلولها عبر مفاوضات بين الحكومتين المغربية والجزائرية. لعبت الحكومة الجزائرية منذ البدء سياسة المماطلة في تسوية الحدود،إلى أن وقع الاصطدام العسكري بين البلدين في 1963، ففي مارس 1963، قام الملك الحسن الثاني بزيارة للجزائر، وتلقى الملك تأكيدات من الرئيس الجزائري بن بلة بأن مسألة الحدود ستدرس في الأمد القريب، لكن بعد عودته ، قامت السلطات الجزائرية بطرد عشرات المغاربة. توترت العلاقات بين البلدين فجأة، لتتطور الأمور إلى مجابهات عسكرية في منطقة تندوف في أكتوبر 1963. كانت أولى الملفات الموضوعة على منظمة الوحدة الإفريقية، ملف النزاع الترابي المغربي الجزائري، في قمة باماكو بمالي، زمن الرئيس موديبو كيتا الذي ساهم في تأسيس مجموعة الدار لبيضاء. غير أن المؤتمر الوزاري المنعقد في نوفمبر1963، أعلن عدم الاختصاص لمناقشة ملف النزاع المغربي الجزائري، لكنه كلف لجنة للنظر في الأمر على أن تصدر قراراتها بالإجماع . في يناير 1967 اجتمعت هذه اللجنة، وأعلن المغرب خلالها أنه يختار وعبر مفاوضات، حلولا متفقا حولها. بيد أن الحكومة الجزائرية لم تكن لها في العمق نية الاعتراف بهذا الاتفاق حول تسوية الحدود مع الحكومة المغربية، بل أصبحت العلاقات مع المغرب ورقة لتصفية الحسابات الداخلية ، خاصة أمام توجه بن بلة للاحتفاظ بالجيش الشعبي و الارتباط بمصر الناصرية، حين كان طرف آخر يرى خلق جيش نظامي عصري، وكان هذا المخطط يهدف إلى إدماج ما سيعرف فيما بعد " جنرالات فرنسا " في الجيش الجزائري، وجعلهم العمود الفقري في النظام السياسي الجزائري. إن حرب الرمال بين الجزائر والمغرب تفسر كثيرا بهذه التحولات الداخلية الجزائرية، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى انقلاب بومدين على بن بلة في يونيو 1965، والتنكر الكامل للاتفاقية التي وقعت في يوليوز 1961 ، بين المغرب والحكومة الجزائرية المؤقتة حول تسوية مشكل الحدود. عرفت سنة 1969 توقيع المغرب معاهدات أخوة وصداقة بين المغرب و موريتانياوالجزائر. وعلى هامش مؤتمر الوحدة الإفريقية التاسع، المنعقد بالرباط بين 12 15 يونيو 1972، تم توقيع اتفاقية الحدود بين المغرب والجزائر، ما زالت مرهونة بالموقف الجزائري من السيادة المغربية في الصحراء. في هذا السياق 1969 1972، الذي عرف توافق المغرب والجزائروموريتانيا على حل المشاكل الترابية، وموازاة مع المخططات الإسبانية في الصحراء، المرتبطة بالتحولات الداخلية التي عرفتها إسبانيا أواخر عهد مرحلة فرانكو، بدأ الحضور المغربي مشعا على الساحة الإفريقية، لقطع الطريق أمام المؤامرات الاستعمارية الإسبانية في الصحراء الغربية والتي كانت تسمى حينها الصحراء الإسبانية. مناورات كانت تهدف لإقامة "دولة صحراوية".