معلوم أن هناك عددا من الأغاني المغربية الشعبية تنتهي برقصة معروفة اسمها رقصة الواد˜، وهي التي يصيح فيها المغنون عند انتهاء وصلتهم الفنية ب «آها.. ها.. هاهو..، آها.. ها ..ها هو..˜ «تعاد عدة مرات علامة على أن التحفة الفنية التي أدوها أمام الجمهور، قد انتهت، وهناك من يختتمها ب «وايه.. وايه.. وايه˜» .. مصحوبة ب «الرش» ( التصفيق) ˜ الإيقاعي. هذه الرقصة أي رقصة «الواد»، وظفها عدد من الفنانين و المجموعات الغنائية، أبرزها مجموعة ناس الغيوان في بداية مشوارها الفني أيام بوجميع رحمه الله، في بداية السبعينيات، وعدد من فرق الشيخات˜ والمجموعات الشعبية والفرق المهتمة بالتراث، وهي إلى الآن تردد في أعراسنا وأفراحنا ومختلف مناسباتنا، لكن يبقى أبرز توظيف لهذه الرقصة المغناة والمصحوبة بالإيقاع من خلال »الرش»˜ ،هو ذلك الذي قامت به المجموعة الرائدة جيل جيلالة˜، حيث مهدت للرقصة بموضوع يليق بروح حمولتها الموضوعاتية، من خلال أغنية »الدورة»˜ الشهيرة. «دارت بنا الدورة... والنفس للي تسال مقهورة الدمعة الهاطلة مغيورة... واكولو راح الليل اهياوين وافينك يا الناشر زرعو... فوق سطاح الغير مازال تدور الدورة... وتعود الكمحة مثمورة والساقية تروي الدشورة... مازال يعم الخير مرسولي انا خاد زادو ورحل جوال قاصد يلقى من غاب إلى ضاق الحال أبابا... علي محال أبابا عندي أمل أنا... نفتح فجوة ونزيد لا تغيب علينا... عود لنا وأجي بالخير والسعادة فاجي لقلوب ... ولاقي الخليل بالخليلة» وهي كما نلاحظ تتغنى بعنوان الأمل، وتتحدث في ظاهر مقدمتها عن الفلاحة والفرج الذي ينتظره منها الإنسان خاصة البدوي الذي يترقب هطول الغيث، ليتغير حاله إلى الأفضل، لكن الإيحاءات في ما بين سطور القصيدة، قد تذهب إلى تأويلات أخرى، خاصة إذا علمنا أن الأغنية صدرت في السبعينيات من القرن الماضي، حين كان الوضع المجتمعي المغربي يتسم بالتوتر، والآفاق كانت مسدودة في أعين جيل تلك الحقبة، وخاصة، أيضا ،أنها أغنية صادرة عن فرقة غنائية، اعتمدت على الرمزية في أعمالها الفنية على غرار مجموعة الغيوان. حسن التوظيف، كما أشرنا كان من خلال جعل أغنية «الدورة»˜ مقدمة لرقصة «الواد˜، «وهي الرقصة المستوحاة من التراث المغربي، وبالضبط من لون غنائي يسمى «الطقيطقات»˜ المعروفة لدى أهل مراكش، الذين يتغنون بها في المناسبات وفي الجلسات الخاصة، وتتضمن مقاطع ذات طابع حميمي، و حتى نكتوي «من النكتة»... مثلا: «ما يردف غير اللي خيمتو كبيرة بنتاو هايجات ديما والزين داتو حليمة واهيا كولو راح الليل آه ياوين» لون »الطقيطقات˜ «ستعتمده جيل جيلالة، لإنجاز أغنية «الدورة»˜ حين طلب مولاي الطاهر الأصبهاني من الشاعر الزجال شهرمان، أن يشتغل على هذا اللون، لينجز منه أغنية، فأحسن الإنجاز لتصبح هذه القصيدة / الأغنية مقدمة لرقصة «الواد˜». هذه الرقصة، مستوحاة من التراث القديم، وبالضبط من قبائل الرحمانة .فمعلوم أن مناطق الرحامنة الشاسعة تعرف شحا في المياه بسبب ندرة الأمطار، إذ لا تنزل الأمطار بالقوة التي تهطل بها في باقي مناطق المغرب، وفي القديم، حينما يطول غياب الأمطار عن هذه المناطق الصخرية، لكن هي في نفس الوقت مؤثثة بالهضاب والتلال، كان سكانها يعولون على فيضانات الأودية القادمة من جبال الأطلس، القريبة من منطقتهم، لتملأ الشِّعاب˜ و» لمعيريضات»˜ المتواجدة في أراضيهم، وكان أهل الرحامنة، يكلفون أشخاصاً منهم، لترقب المياه القادمة وإشعار الناس، ليستقبلوا هذه المياه ويرتووا منها ويخزنون ما يمكن تخزينه لماشيتهم، هكذا يصعد مراقب منهم في أعلى هضبة قريبة جغرافيا من الجبال البعيدة، ومراقب ثان بعده في هضبة أخرى أقل ارتفاعا وآخر في ثالثة وهكذا.. على شكل سلسلة، لإخبار أهالي الدواوير بقدوم المياه، وامتلاء الأودية الصغيرة المتخللة لأراضيهم. عند ظهور المياه القادمة من بعيد، يصيح المراقب الأول موجهاً صوته إلى المراقب الثاني، بالطريقة المعروفة في البادية، على شكل نداء فيصيح:» آها..» أو.» آه «أو. «وايه»، في إشارة لكي ينتبه إليه مخاطبه الذي يوجد في هضبة بعيدة منه، فيجيبه الأخير بلفظة.» آه ». بمعنى نعم، أو ماذا تريد أن تقول، فيرد المراقب الأول، بلفظة، ها هو، بمعنى أن الواد قادم، أي أن المياه المنتظرة اقتربت من الدواوير. فيقوم المراقب الثاني بنفس الحوار مع المراقب الثالث، ومن الثالث إلى باقي المراقبين، ومن ثمة يصل الخبر السار إلى جميع الدواوير والمداشر. وعندما تمتلىء الوديان الصغيرة القريبة من الدواوير، يقصدها الشباب فرحاً، ويقفون وسطها، ويصيحون فرحاً، ومن خلال رقصة وسط المياه، يقلدون حوار المراقبين في احتفالية كبرى فرحاً بالمياه مرددين. «آها ..آه.. ها هو.. آها .. آه.. ها هو». هذا المشهد، سيصبح فيما بعد مجسداً في أفراحهم، وسينتشر ليكسو الغناء الشعبي المغربي، لما له من دلالة على الفرح والسرور. هكذا ربطت جيل جيلالة رقصة » الواد»˜ بأغنية «الدورة» المتحدثة عن القمح والساقية والثمرة والدشورة... لتصبح في موضعها الحقيقي غير المبتور. أغنية الدورة ستكون أحد مواضيع أفلام المخرج الجميل ، كمال كمال الذي وظفها في فيلمه «السنفونية» بتوزيع موسيقي بديع. لم يكن المخرج كمال كمال أول من استهوته هذه الأغنية ، بل سبقة المبدع اللبناني «كركلا» الذي وظف أغنية الدورة و أغاني أخرى لجيل جيلالة ،و مارسيل خليفة ، في عمل إبداعي ضخم جاب به أوربا و أمريكا . و قدم عرضا واحدا لهذا العمل بالمدينة الأثرية وليلي.