في فاتح فبراير 1979، حينما كان شيخ وقور ناهز الخامسة و السبعين من العمر يهبط سلم الطائرة في مطار مهرأباد بطهران، كانت مرحلة من تاريخ إيران قد شرعت في التبدد و الاندثار فيما طفقت حقبة جديدة في تاريخ البلاد و في تاريخ العالم الإسلامي و العالم أجمع، تخُط أولى صفحاتها. فلأول مرة ? منذ الدولة الصفوية في القرن السادس عشر? سيعلن عن قيام دولة شيعية إمامية مبنية على المذهب الإثناعشري. و ابتداء من ذلك التاريخ تغيرت المعطيات الجيوسياسية بالمنطقة، و شرعت الدولة الجديدة في استخدام و تصدير سلاحها المذهبي، عبر العالم، في البداية إلى المناطق القريبة التي تحتضن شيعة إثناعشرية و بعدها إلى المناطق الشيعية حيثما وُجدت ثم إلى العالم الإسلامي كاملا و أخيرا إلى العالم أجمع و أينما وجد المسلمون. في هذه السلسلة من المقالات، نتابع الكيفية التي تقوم بها إيران بنشر التشيع، و المذهب الإثنا عشري تحديدا، عبر العالم خدمة لمصالحها السياسية كدولة صاعدة ترنو إلى الهيمنة على محيطها القريب و السيطرة على دُوله، و ذلك من خلال التمكن من عقول مُواطني هذه الدول. و من أجل فهم أفضل، لا بد من وضع الشيعة و أصولها الفكرية و فرقها المختلفة في سياقها التاريخي القديم و الحديث، و هو الأمر الذي من شأنه أن يسهل فهم توزيعها الجغرافي الراهن و بالتالي استيعاب مخطط الجمهورية الإسلامية الإيرانية و وضعه في سياق الصراع الدولي الجاري. أمام هذه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، قاد الإمام موسى الصدر حملة لمطالبة السلطات اللبنانية بتحصين القرى الجنوبية وتسليح أبناء الجنوب وتدريبهم للدفاع عن أنفسهم وعن قُراهم. وبالموازاة مع ذلك، تزعم حملة تحسيسية في اتجاه الجنوبيين أنفسهم، داعيا إياهم إلى الصمود وعدم النزوح. إلا أن هذه الدعوات الطيبة لم تمنع خمسين ألفا من مواطني ثلاثين قرية جنوبية من النزوح الجماعي عقب العدوان الإسرائيلي بتاريخ 12 ماي 1970، مما دفع الصدر في اليوم التالي إلى دعوة الرؤساء الدينيين بالجنوب من مختلف الطوائف إلى اجتماع تأسست إثره: "هيأة نصرة الجنوب" تلاه في مساء نفس اليوم اجتماع لمجلس النواب أنشأ خلاله "مجلس الجنوب" المرتبط مباشرة برئاسة مجلس الوزراء. بيد أن هذه التحركات الحثيثة من جانب الإمام الصدر لم تكن على ذوق الجميع في لبنان. وفي هذا السياق، أنكر رئيس الجمهورية الجديد (سليمان فرنجية) على المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الحديث النشأة وعلى رئيسه موسى الصدر حقهما القانوني في الاهتمام بالشأن العام. فما كان من الإمام الصدر إلا أن صعّد من حملته، فأعلن بتاريخ ثاني فبراير 1974 معارضته للحكام المسؤولين في لبنان لأنهم يتجاهلون حقوق المحرومين وواجب تعمير المناطق المتخلفة ويهددون بسلوكهم أمن الوطن وكيانه. وكثف الصدر من تحركاته في جميع مناطق لبنان مترئسا المهرجانات الجماهيرية التي كان أضخمها مهرجانا صور وبعلبك اللذين أقسمت الجماهير - خلالهما- مع خطيبها على أن يتابعوا الحملة، وأن لا يهدأوا إلى أن لا يبقى محروم في لبنان أو منطقة محرومة. وهكذا ولدت "حركة المحرومين" التي حدد مبادئها الإمام الصدر بقوله: "أن حركة المحرومين تنطلق من الإيمان الحقيقي بالله وبالإنسان وحريته الكاملة وكرامته. وهي ترفض الظلم الاجتماعي ونظام الطائفية السياسية. وتحارب بلا هوادة الاستبداد والإقطاع والتسلط وتصنيف المواطنين. وهي حركة وطنية تتمسك بالسيادة الوطنية وبسلامة أرض الوطن، وتحارب الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان". واستطاع الصدر أن يجمع نخبة الطائفة الشيعية (رجال دين وسياسة وأعمال ومفكرين) تحت شعار الجهاد الوطني واستنكار موقف الدولة اللامبالي ،فوضته اتخاذ كافة الخطوات في سبيل تحقيق مطالب الطائفة والوطن. كانت الأوضاع السياسية في لبنان آنذاك تمور بالاضطرابات والتوترات التي لم تكن تنتظر سوى الشرارة كي تنفجر في وجه الجميع. وجاءت هذه الشرارة باغتيال النائب السابق معروف سعد في صيدا، وعملية عين الرمانة التي راح ضحيتها عدد كبير من الفلسطينين العائدين من تشييع جنازة الزعيم اللبناني المُغتال، وهي الشرارة التي فجرت الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975. و لسنا هنا في وارد الحديث عن الحرب الأهلية اللبنانية و لا عن جذورها و أسبابها العميقة، إلا أن المؤكد أن العامل الفلسطيني بلبنان - سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة - كان له دوره في اندلاع وتطور الحرب الأهلية. فمنذ اللحظة الأولى للوجود الفلسطنيي المسلح بلبنان، اصطدم مع مصالح الفئة الحاكمة التي رأت في تناميه خطرا على كل مقومات وجودها، بينما رأت فيه الحركة الوطنية اللبنانية رديفا وحليفا لها. لذلك فما أن أعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في 18 فبراير 1969، قيام الكفاح المسلح، حتى افتعلت السلطة اللبنانية تصادما مع المقاومة، بهدف تقييد التحرك العسكري الفلسطيني في جنوبلبنان. إلا أن الشارع اللبناني، بقيادة الحركة والأحزاب الوطنية والقومية، خرج في مظاهرات اصطدم خلالها مع قوات الأمن، وهي المظاهرات التي أدت الي استقالة رئيس الوزراء ورفض مختلف القيادات السياسية قبول تشكيل الحكومة في مثل هذه الشروط، مما جعل الأزمة الوزارية تستمر لمدة 215 يوما. ووقعت اصطدامات بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين المدعومين من طرف فئة كبيرة من الشعب اللبناني، لم يتمكن خلالها الجيش من حسم الوضع. وتحت ضغوط الأزمة والضغط العربي الرسمي والشعبي طلب لبنان وساطة مصر. وفي 31 نوفمبر 1969، توصل المفاوضون الى اتفاق سري، عرف باتفاق القاهرة، أصبح بموجبه من حق الفلسطينيين المقيمين بلبنان العمل والإقامة والتنقل. كما أنشئت بمقتضاه لجان محلية داخل المخيمات الفلسطينية لرعاية مصالح اللاجئين مع وجود نقاط للكفاح المسلح داخل المخيمات. وطيلة هذه السنوات عاش الفلسطينيون بالجنوب في تجاور ودي مع الشيعة سواء في الجنوب أو في ضاحية بيروت. وحينما بدأت الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، تكلفت المنظمات الفلسطينية (وكبراها حركة فتح) بتدريب وتكوين الشبان الشيعة على حمل السلاح والدفاع عن الوطن والنفس. وحتى حينما وقع الاصطدام بين الفلسطينيين والجيش اللبناني (ماي 1973) وجد المقاتلون الشيعة في ذلك تمرينا أوليا على المُهمات القتالية، إلا أنهم كانوا يتدربون ويقاتلون آنذاك كأفراد لا أقل ولا أكثر. ومع اندلاع الاشتباكات الأولى للحرب الأهلية، حاول الإمام الصدر بذل الجهود من أجل وقف الفتنة و تهدئة الوضع داعيا اللبنانيين إلي حفظ وطنهم وفي قلبه مكان للثورة الفلسطينية ومناشدا الفلسطينيين لحفظ قضيتهم التي جعلت لها من قلب لبنان عرشها. وإلى جانب دعواته المتكررة إلى الاحتكام للعقل والحوار ونبذ العنف والفتنة التي لا تفيد سوى العدو الإسرائيلي، كان الإمام موسى الصدر واعيا بالأخطار القادمة وبضرورة توفير درع عسكري يحمي الطائفة الشيعية حديثة العهد بوعيها لذاتها، من الأخطار المحتملة والمحدقة بها. وفي هذا السياق أعلن الإمام الصدر في مؤتمر صحفي عقده في يوليوز 1975 عن ولادة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) قائلا أنها: "أزهار الفتوة والفداء ممن لبوا نداء الوطن الجريح". وقد شارك مقاتلو حركة أمل في عدة معارك، ضد الإسرائيليين في الجنوب ثم ضد المسيحيين في بداية الحرب الأهلية ثم ضد الفلسطينيين - الذين كونوهم-. وإذا كان الإمام موسى الصدر قد منح الطائفة الشيعية اللبنانية الوعي بذاتها ككيان وكطائفة داخل الوطن الأم، ومكنها من التمثيل السياسي والاجتماعي سواء بإنشائه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أو بتشكيل حركة المحرومين، ومنحها ذراعها العسكري المدافع عنها المتمثل في حركة أفواج المقاومة الإسلامية (أمل)، فإن فقيها شيعيا زميلا له، سيكون له - خاصة بعد اختطاف الإمام الصدر في ليبيا سنة 1978 - تأثير كبير على الطائفة الشيعية أو على نخبة من أبنائها، حيث سيعمل بواسطة دروسه وكتاباته الملتهبة على تثوير أبناء الطائفة في اتجاه زادت من راديكاليته الظروف المريرة التي عاشها لبنان عقب العدوان الإسرائيلي سنة 1982 ، إنه الشيخ محمد حسين فضل لله. فبعد الاختفاء الغامض للإمام موسى الصدر أثناء رحلة له إلى ليبيا، ودخول حركة "أمل" كطرف من أطراف الحرب الأهلية الدامية بلبنان، تمكن الشيعة اللبنانيون من الإحساس بأن كلمتهم أصبحت مسموعة أكثر داخل رقعة الشطرنج اللبنانية، بل ان هذه الطائفة التي كانت مستضعفة ومهملة أصبحت مع إنشاء "حزب الله" في بداية الثمانينات ودوره الوطني في المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، طائفة تلعب دورا سياسيا هاما داخليا وإقليميا. الحلقة المقبلة : الجذور الإيرانية لحزب لله