عندما كان المخرج السينمائي الراحل محمد الركاب يحاضر في الأندية السينمائية بعد عرض فيلمه الممتاز "حلاق درب الفقراء"، كان يردّ اعتراضا شائعا حينها في السبعينيات والثمانينيات، من أن أحد عوائق الإقلاع السينمائي في المغرب غياب النصّ. وكلّ من يعود إلى تلك الفترة، سيتذكر لا محالة أن هذا الاعتراض كان رائجا بحدّة في الميدان المسرحي أيضا. المسألة برمتها إذن كانت حول مدى اطلاع السينمائيين على النصوص الأدبية والتاريخية وغيرها.. وفعلا، كيف يمكن الادعاء بأن ليس لدينا مثلا أدب مأساوي، في حين أن الكتابة التاريخية كلها حول تاريخنا مليئة بالمآسي والدراما، من عبدالواحد المراكشي إلى ابن زيدان إلى الناصري وغيرهم... لنتصوّر كيف سيكون حال عاشقين وجدا نفسيهما في سفينة تهجير المورسكيين من غرناطة في القرن 16م، تاركين وراءهم أحبة ووطنا لايعرفون غيره.. كم من المهاجرين اليوم عاش هذه التجربة. ولنتصور تاجرين صديقين عادا من مناسك الحج في القرن 19م، ليجدا قبيلتيهما تخوضان حربا ضروسا في ما بينهما أتت على الأخضر واليابس، مما اضطرّ السلطان الحسن الأول "للحركة" عليهما اخمادا لنار الفتنة. أو قصة شاب و شابة اقتلعا من جذورهما من الجنوب ليجدا نفسيهما في عداد الرقيق في قصور مدينة فاس.. والأمثلة لاتكاد تحصى. ولعل هذا ما جعل محمد الركاب، رحمه الله، يشير إلى أن الناس يبحثون عن النصوص في غير محلها. مناسبة هذا الكلام، طبعا هو الضجة التي خلقها فيلم نبيل عيوش الأخير. من المثير أن معظم من شاهد الفيلم، بعيدا عن المهاترات الأخلاقية والمزايدات السياسية، أقرّ بتواضعه الفني، وبأنه رتيب يدعو إلى الملل.. ألا يمكن أن يكون وراء هذه الرتابة أمر أهم من مجرد ضعف في التقنية السينمائية..؟ وبالفعل، ماهي العقدة التي يدور حولها الفيلم، بحيث تساهم كل المشاهد في تكثيفها حتى تخلق ذلك التوتر الحاد لدى الأبطال ليجد حلّه في النتيجة النهائية التي يريدها المخرج؟؟ طبعا، ليست الدعارة عقدة، بل هي مجرد مناسبة. إذ العقدة الفنية توجد في مكان آخر. لن نتطرق للمسائل الفنية لعدم الاختصاص، لكننا نتساءل حول الموضوع. لا يشكّل وصف الدعارة موضوعا، وإلا لاستغنينا بفيلم وثائقي عن فيلم تخييلي، ولاكتفينا بدراسات اجتماعية وانثروبولوجية ونفسانية عن الفيلم رأساً. والحال أن الفن السينمائي قد جمع فنونا كثيرة في مجاله: الأدب، التشكيل، الموسيقى.. إلخ. وذلك بنيّة إبراز ما لا يمكن للعلوم المذكورة إظهاره بأدواتها الخاصة. لنتصوّر في هذا المثال حالة شابة تجد نفسها في حبائل الدعارة، لكنها تسعى جاهدة للخروج منها، بيد أن شروطا خاصة وموضوعية تجرّها إليها جرّا.. فيتكوّن عندها وعي شقي، تساهم كل المشاهد في توضيحه. فيكون ذلك الوعي الشقي هو الموضوع/العقدة.. بديهي أن هذا التناول الفني للمسائل الذي نجده في السينما العالمية، يتطلب إدراكا دقيقا وإحساسا مرهفا بالأوضاع العامة. هل هذا هو حال نبيل عيوش؟؟ يبدو نبيل عيوش وكأنه لا يعرف من الآداب إلا القصص المصوّرة. ليس على اطلاع واسع بالثقافة الأوروبية الحديثة بمعرفياتها وجمالياتها، ومن الأكيد أن لا صلة له بالثقافة العربية/الإسلامية بمفاهيمها وآدابها وفلسفاتها، لذلك لم يستطع أن يكتشف الموضوع الفني وراء ظاهرة الدعارة، فأكثر من المشاهد المجانية التي لا تضيف أي قيمة جمالية على عمل أبطال الفيلم. ومن هنا الرتابة المملّة التي يحسّ بها كل من يتذوق الفن السينمائي عند مشاهدته لهذا الشريط. خطأ نبيل عيوش، خطأ أصيل.. يكمن في محدودية ثقافته العامة.