وأنت تصوب النظر نحو المؤلف السردي الأخير لأنيس الرافعي المعنون ب " أريج البستان في تصاريف العميان " ، الصادر عن دار العين المصرية ؛ تثيرك العديد من العلامات التي تقدم حكايا هذا الدليل الذي يؤسس لدليل ( وامض ) وجداني وتخييلي ، بناء على كتابة راصدة ، ليس من منطلق تاريخي وتوثيقي . وبالتالي فالكاتب سعى جاهدا لتأثيث شرطه الحكائي بما يلزم ، ليبدو محتملا كحقيقة أخرى مطابقة بالوهم لتراكم تاريخي ومعرفي حول حاضرة مراكش العامرة بالمسير والتأطير، وعامرة أيضا مع هذا الدليل الذي يقترحه أنيس على القصة كفتح ينهض على دعامات زئبقية ، في محاكاة للأصل ، محاكاة سعت إلى التخفف من الاجترار في المحتمل . قبل ولوج الحكاية في " أريج البستان في تصاريف العميان "، لا بد من المرور بعتبات موجهة للنظر ، ليس بالمعنى المؤدلج ، على الرغم أنها توهم بذلك ، منها الاستناد على أشكال تراثية تسعى إلى إثبات الفكرة كموعظة فكان لهذا الأريج أيضا خطبته التي تطرح آليات سرد الكاتب المنطلق من حاضرة مراكش كمكان وهوامش نظرية ، لكن الكاتب في فضاء البراق يصوغ حكايا مراكش وحيواتها في تأمل يجاور بين الواقع والمتخيل . وهو هنا ينتصر للكتابة الأصيلة كخلق وسبك في أفق اجتراح ممكنات إبداعية دون خلط أو تجريب فج . في حين،فالمقصد يثبت طريقة السرد وزمنه الخاص من خلال أقوال موازية . أما الخاتمة فسعت إلى الكشف عن غايات تتمثل في علامات الانفصام والانفصال بين السارد وما يجري ككائن مجوف محشو بخرق اليقين . قد تعزز هذه المداخل الخطاب المقدماتي الذي يبدو خافتا في المؤلفات الإبداعية المعاصرة ، إذ يبرز فيه الكاتب نواياه وآليات اشتغاله ، ضمن أفق رؤيته للمادة والصياغة . كما قد تعود بنا نفس المداخل إلى أشكال إبداعية قديمة منها أساسا الأسلوب المقامي والرسالة وفن الخطابة في تجانس خلاق هنا ، قصد تبليغ فكرة متولدة عن خبرة وتجربة في المعيش والمقروء والحياة أيضا ، في إعلاء من شأن المغزى والمعنى . ومن جانب آخر تبدو الخاتمة مؤكدة عن نغمة الفقد كأنها خلاصة مبحث نظري ، لكن ينطرح الأمر هنا بصيغة أخرى . وهو ما يؤكد أن هذا العمل يطرح متلقيه الداخلي وناقده المفترض . بعد ذلك ، ينفتح مسرد الكتاب كسفر عبر أبواب طالعة من أسفل أو مؤسسة لسمواتها ( باب القطط ، باب الأكتح ، باب الحال ، باب السماق ، باب الذباب ، باب الوشم ، باب الآخرة)، طبعا أثثت عتبات الأبواب بجداول سحرية ، يبدو أنها على قدر كبير من القلب اللائق بالوظائف السردية السارية في تلافيف الحكايا . يغلب ظني ، أن الكتاب ينبني في وحدته الجمالية والفكرية على الكثير من الروابط الخفية والظاهرة منها تيمة الفن في الحياة من خلال كائنات ثقافية متنوعة المرجع ، ومطابقة للأبواب والرجال السبعة لحاضرة مراكش . وبذلك فالمؤلف وهو يعيد كتابة فصول من حياة هذه المدينة ، في تركيز على اليومي ومفارقاته الزاخرة ؛ يؤسس للعديد من المحاورات الواعية بالسند والمرجع ، في إثبات هذه الهوامش . ورد في كتاب " أريج البستان في تصاريف العميان " في باب القطط ، ص 28 : " كان يقول : " كلما بعت واحدة من أرواحه ، استردها في التو" ولأن أرواح " مينوش " لا عد لها ، وسعرها أضحى يرتفع مع كل تخطيط ، توجه عباس ، بعد مدة ، إلى المدينة القديمة على مقربة من ضريح " مولاي سيدي عبد العزيز " بغرض استئجار غرفة بالسطح ، ولوضع حد نهائي لهواية ذرع الطرقات وحيدا ومهجورا مثل قفاز بلا يد . لم يعرف عباس أنه دخل إلى المنزل الخطأ ، ويا ليته لم يقصد ، أصلا ، هذا المكان الشؤوم . " . يبدو أن الكاتب يسعى إلى تأسيس ميثاق قرائي في انتساب للقارىء ، لملأ ثقوب وبناء الكتابة ليس كأفعال ووقائع ، بل كحالات متسربة بإمكانها خلق مجراها . لهذا كانت الحكايا تتخلق أمامنا وتطرح أكثر من صيغة للكتابة ، ليس من فراغ ؛ بل استنادا على عدة مرجعية وفي الطرائق أيضا . وغير خاف ، أن هذه الأخيرة لا تصوغ المادة فقط؛بل تلونها بنكهة ما .وهي معرفة مزدوجة ( المرجعي والصياغة ) ماثلة في قاع الحكي . فعتبات الحكي المثبتة في هذا المؤلف ( خطبة ، مقصدية ، خاتمة ، جداول ، أبواب..) لا تنطرح بشكل وثوقي ، بل بشكل إبداعي حين نعود من الحكاية . تبدو كمجليات وأبعاد . كأن لكل حكاية إناؤها ، للامعان في الحركات الباطنية والظاهرة لمجرى السرد . من ذلك تلك التوليفة أو الخلطة العجيبة على غرار " السحر" الدارج التي تتلف الأعضاء والأعصاب . ولكنها في هذا الأريج بمنطق آخرتستنفر الأعضاء والأعصاب في تجاورخلاق بين الواقعي والمتخيل ، يكون الأول كمداخل معينة ( تفاصيل ، معرفة ، حيوات ..) لمتخيل يمدد ويعيد البناء أن يجعل من الحبة قبة ومن هذه الأخير حبة . وللإشارة هنا لأني درجت على أغلب مؤلفات هذا الكاتب الذي لا يوظف الغرائبي والعجائبي ، كتقنيات بلاغية فحسب ، بل كفلسفة ورؤيا . وهو مسعى ونزوع يؤسسه الكاتب في المنجز والاشتغال الدؤوب ، لتليين السرد حتى لا يبدو مفلطحا في بعض جوانبه كالعجين الفائض ، في ادعاء يسبق ويستبق الخطى . ضمن هذه التوليفة ( السالفة الذكر ) تتشكل الحكاية كقطائع ومتواليات يتعدد معها الزمن ، في تأسيس لشرط حكائي حاضن لوقائع مفترضة تقع في الفكرة وفي منطقة من الذات الإنسانية . وبالتالي فكل ما يؤطر به الكاتب معطيات حكيه السائب والمتخفف من الحشو والترهل ، فقط لنمعن في السراب المتذرع بالأفعال ، لنقبض على الوقائع في الفكرة،لنصاب بدوخة اللوثة ونحن في انتشاء وجودي دون حاجة إلى وضع اليد على المصدر الذي لا نرتفع عليه بل نلعب معه لعبة القرب والبعد ، لعبة التجلي والتخفي ، لعبة الظهور والقناع ... نقرأ في باب الحال، ص 52 : " على امتداد ساعات طويلة يمكن قياسها بعدد الدوائر المنطبعة على " الباليت " ، يحاول بعصبية ظاهرة أن يسحب إلى ألوانه الزيتية المخلوطة ، ذلك الصفاء الذي يقترحه الأفق ؛ خضرة البساتين المتقدة شدوا ؛ الصمت الراقد بين العين وسعفان النخيل ؛ والظلال التي تضرب أطنابها في الأقواس والجادات ، لكن الإلهام قفل صدىء لا ينفتح ، والفرشاة تأبى أن تشق طريقها صوب نأمة شكل . وينستون كان يغيب في الجزء الشاغر من لوحته . لعله ينسى نفسه ، لعه يقيم خارج ذاته . لعله يمضي طويلا وبعيدا كالسراب كالصدى ، كما لو أن المكان خسف به على حين غرة . " . في أكثر من محطة سردية في مساره ، يشتغل الكاتب حكائيا في منطقة التماس بين التفاصيل والفن ، فيتشكل في ضرب البرشمان منجزا ثالثا ،تتداخل فيه الأسئلة وتتعدد الأبعاد . في هذا الصدد ، فسارد الكاتب يتشرب الشخوص الواقعية غير المتصالحة مع النمط وأبطال حكايا اللوحات ويطرح افتراضات عيش في صميم الحياة الإنسانية . وهو بذلك يرسم بالشخوص تلك لوحات سردية بواسطة كلمات تؤسس لمفردات حياة داخل حكي ينطرح كخلق تحت نفخ له صوره وممكناته الجمالية . وفي المقابل ، فمدينة مراكش المنطرحة في التاريخ والحواشي كحد وبساط ، تبدو ملونة بحالات ضمن حيوات أخرى . وهو ما يقضي تجميع هذه الحاضرة لتشكيل الصورة السابحة في ماء الحكي . كأن للمدينة شأن آخر في الظلال والكوامن ، في الهواجس والحواس المشغلة بقدر كبير من الجنون والحرية . وقد يؤدي هذا إلى استحضار مدن ظلت لصيقة بكتاب معينين ، نجيب محفوظ والقاهرة ، العروي وأزمور ، عبد الله راجع والفقيه بن صالح ، محمد برادة وفاس ، محمد شكري وطنجة...لا بد للمدينة أن تتخذ أنفاسا أخرى من خلال الضربات الإبداعية التي تعمق الغور وتهدىء الملمح إلى حد يتداخل معه الإنسان بالمكان ، فيبدو كلاهما أمتدادا للآخر . يغلب الظن ، أن هذا المؤلف ( أريج البستان في تصاريف العميان ) استبطن اللغة ، لتبدو طيعة في صياغة تساوق حكائي تسعى إلى ترهين المعطيات في تقطيع زمني وحكائي محتمل ، تكون معه حاضرة مراكش منطلقا، لكنها تنطرح فضاء إنسانيا جديرا بالمكامن ومجرى الوجدان . كأن الأمر يتعلق بنحت غير متصلب ، تتعدد معه الحكاية كأوجه واحتمالات ، فكانت اللغة مكثفة طاوية على إيقاع داخلي سار في تشظ مشهدي، ضمن تصعيد درامي . فالمتعة تقتضي غرابة الحالة ، وفي المقابل ،تعددت ضربات اللغة الحاكية من قلب وسخرية عبر وصف يسند التوازي بين الشخوص والأمكنة والأزمنة . فالكل يحكي في انتفاخ وتقلص الحالة ، تبعا ل "جذبة " الحكاية أو ما يعبر عنه قديما بمقتضى الحال ، وليس لجلبتها كما اعتدنا في الكثير من الشبه القاتل . بهذا، ولا مجال ، فأنيس الرافعي أسس لقفزات جميلة في هذا العمل الحكائي في اللغة المنسابة كماء لاستحمام الكائنات المتعددة النفس في الحياة والكتابة أيضا ، ضمن نفس إنساني شامل يعدد من وجوه الإنسان في أفق التأسيس لملحمة دون يقين . لذا وجب وضع اليد تحت الذقن والتعثر بهذا الأريج في النظر . *شاعر وناقد من المغرب