تعرف عليه الجمهور الفرنسي حين كان يشكل ثنائيا مع إيلي سيمون في أواسط التسعينيات... وقدم الإثنان أعمالا متعددة من ضمنها عملا تحت عنوان »»كوهن وممادو»«، لقي هذا السكتش إقبالا منقطع النظير، ودخل الثنائي إلى الساحة الفكاهية الفرنسية من بابها الواسع.. إيلي سيمون يلعب دور »كوهن« اليهودي الذي يتهكم على العائلات الإفريقية بضجيجها وأوساخها وكثرة إنجابها من أجل الحصول على تعويضات الضمان الإجتماعي الفرنسي، وديودوني يلعب دور »ممادو« المتهكم من اليهود، وعلاقتهم بالجاه والمال، وختم تهكمه بالقول: آسف، لأن هتلر لم ينته من عمله.. جملة قوية مرت مرور الكرام، وتقبلها الناس على أساس أنها تدخل في حقل الفكاهة. والأمر في آخر المطاف ضحك.. وما كان هناك ضجيج.. ديودوني، أو ديودو، كما كانوا يسمونه آنذاك: كانت تتهافت عليه وسائل الإعلام المرئية، كان يقال إنه زبون جيد يرفع من نسبة المشاهدة.. قالوا إنه ليس فكاهيا، بل ساخرا.. قالوا ليس كوميديا، بل رجل هزل، قالوا تجاوز الجرأة، وقالوا إن الفنان الساخر لا حدود له.. قالوا إنه مستفز كبير، وقالوا لا فكاهة بدون استفزاز... وقالوا... وقالوا ولا أحد تحدث آنذاك عن المنع.. والأغلبية تغنت حينئذ بحرية الإبداع، وحرية التعبير الفني.. فليكن! تم الطلاق الثلاث بين ديودوني وإيلي سيمون، فلا حاجة للتذكير بأن هذا الأخير من أصل يهودي، وتطرقت وسائل الإعلام إلى هذا الطلاق، وسألت عن أسباب نزوله، فأجاب إيلي سيمون: إن ديودو يحمل في أعماقه أفكارا معادية للسامية. وانتهت الحكاية. كل منهما نهج طريقه، ولكل واحد منهما جمهوره.. وكلها يلغي بلغاه.. بلا صداع... في فترة ما، أصبح يُضرب بديودوني مثل الرجل الذي يكره اليهود، وجل الزملاء في الحرفة الفكاهية تبرؤوا منه لأنه يشكل خطرا نموذجيا.. وهمشته البرامج التلفزيونية جلها، إلى حد أن تييري أرديسون، المنشط المشاغب، صاح في وجهه ذات حلقة إنها آخر مرة أستدعيك إلى برامجي. وهكذا كان.. وتبعه آخرون... وبما أن الشخصية الهزلية تشكو من عناد الفكر أو عناد الشخصية، حسب هنري بركسون.. وإن الفكر الذي يعاند ينتهي إلى إخضاع الأشياء لفكره بدلا من أن يضبط فكره على الأشياء، ودائما على لسان بركسون.. فقد رفض الرجل التهميش ووجد له مبرراته الشخصية، وأسبابه الذاتية... »فاليهود يتحكمون في وسائل الإعلام داخل الإيكزاكون«... ولهذا تم تهميشي بالواضح والمرموز.. إنه »منطق اللامعقول» حسب البعض.. إنها »كلمة حق أريد بها باطل حسب البعض الآخر، جاء موعد الانتخابات الأوربية في بداية الألفين، وتقدم بلائحة تحت شعار: »الحرية لفلسطين«: وكثرت الأقاويل في الجرائد والصحف والمقاهي.. هل اتخذ هذا الآدمي القضية الفلسطينية قنطرة للمواجهة والمجابهة ورد الاعتبار؟ هل اتخذها جسرا للوصول إلى تعاطف الجاليات المسلمة في بلد فولتير؟ أم أنه فعلا يؤمن إيمانا عميقا بالقضية، وبأن الفلسطينيين هضمت حقوقهم من ألف إلى ياء؟ هنا أيضا، تضاربت الآراء... حتى أضحى اسم ديودوني يحسب له ألف حساب في كل تدخل أو مداخلة هنا أو هناك.. ودائما بعيدا عن الإعلام المرئي... هل خرج ديودوني من عوالمه، واقتحم عوالم أخرى؟... هل غير بذلة الفكاهي الساخر ببذلة السياسي المنظر؟ هذه أيضا أسئلة تناطحت عليها الأكباش بين مؤيد ومعارض.. يبدو بأن هذا الرجل يعشق نفسه حين يكون مثار نقاش وجدال. وما قوله الأخير عن الصحافي المعروف بإذاعة فرانس أنتير »باتريك كوهن« إلا خير دليل.. الرجل يحب الاستفزاز... الرجل يرتاح إن هو محطة بين هذا الرأي والرأي المعاكس.. الرجل يؤمن إيمانا راسخا بأنه يقول بصوت مرتفع ما يقوله الآخرون بصوت منخفض.. والآخرون يؤمنون بأن الرجل يجري فقط وراء الأموال الطائرة... فلنعتبر هذا مرضا.. أو تهكما. أو رأيا.. أو مبدأ في الحياة... أو تعبيرا عن كراهية الصهاينة.. أو حقدا على اللوبيات اليهودية.. أو... أو.. فهذا أمر يهمه في نهاية المطاف.. فمن أراد مشاهدة عروضه، فليذهب.. ومن يرفض فعليه أن يبتعد، وعلى الدنيا السلام... هذه واحدة.. أما الثانية، فما سمعته وقرأته هنا وهناك حول العرض المرتقب الذي سيقدمه داخل البلاد الغالية... قرأت في بعض الجرائد المكتوبة - أنا الجاهل بالتكنولوجيا الجديدة، والفاسيبوكات الغريبة - بأن أناسا من بني جلدتي يرفضون، بل يمنعون عرض الرجل المشاكس ببلادنا.. هنا، بدأ المعقول يا ناس! قرأت وسمعت بأن هؤلاء أعلنوا عن رفضهم المطلق، لأن الرجل يحرض على الكراهية... وما فهمت معنى التحريض علي الكراهية؟ بل منهم من جادت عبقريته للحديث عن التحريض عن العنف وأشياء أخرى... إذا كان التحريض على كراهية الآخر، معناها الحط من قيمته.. معناها وصفه بالتسلط - في إطار السخرية طبعا - معناها انتقاده في علاقته بالتجارة والمال... معناها أنه يسير الإعلام بيد من حديد... معناها أن هذا الآخر يشكل إدارة تدير الفن والإعلام سيان (في إطار السخرية طبعا).. أما إذا كان هذا في إطار جدال سياسي محض، فجادلهم بالتي هي أحسن.. ولماذا المنع؟ فحسب معرفتي المتواضعة، فالرجل ما سمعته يوما يحرض على الكراهية.. ولا على العنف.. قد يبالغ أحيانا في تصوراته للأشياء، ومتى كان علينا، أو من حقنا أن نمنع المبالغة في التصورات. وإذا كان السبب الفعلي للمنع هو الحديث والتصغير من اليهود.. فلماذا لم نمنع كل الفكاهيين الفرنسيين الذين لم يقولوا في العرب إلا ما نسوه.. حذار! فالضحك ليس له من عدو أكبر من الانفعال، والعديد من الفلاسفة عرفوا الإنسان بأنه »حيوان يعرف كيف يضحك«، والفكاهة الساخرة تتوجه إلى الذكاء الخالص.. ما علينا. هل يعرف أصحاب المنع بأن الفكاهة الفرنسية تعبر كثيرا عن مواقف العنصرية الفرنسية وهذه العنصرية - حسب المفكر جوزيف رولان - لها جانب أدبي أكثر مما هو علمي، ينتج هذا الجانب الشتائم واللعنات أكثر مما ينتج النظريات. إن المتخيل الفكاهي الفرنسي يتغذى بالعنصرية، والتهكم على الآخر.. وقد قال إرنست رونون: »إن كل ما يعطيه شعب من الشعوب للإبتهاج والبشاشة، يأخذه دائما ودوما عن طريق القبح..« إننا إذن، نضحك ذوينا على حساب الأذى الذي نلحقه بالآخر... وديودوني ينتمي إلى هذا المتخيل، شئنا أم أبينا... فالفكاهة الفرنسية تصور البلجيكي بليدا، بما لكلمة بلادة من معنى... تصوّر الإغريقي بعيدا عن الرجولة... تصوّر البريطاني بالطّباخ السيء الذي قد يأكل الأزبال... وتصوّر التركي بالإنسان المقموع وراضيا بالقمع... وقس على ذلك. أما العربي، فيصوّره هذا المخيال الفكاهي بأنه لص، مغتصب للأطفال والنساء، بأنه يبعث على الشفقة والحنان... بأنه عاطل مزمن يكره العمل.. بأنه غشاش ومفتقد للذكاء، وغير جدير بالثقة... إنه مشتبه فيه يتردد على السجون، يتناول المخدرات وبيعها... إنه ساذج، والمرأة العربية صالحة لنفخ البطن، والاستفادة من تعويضات فرنسا لا أقل ولا أكثر.. وأخيرا، دخلت صورة العربي المسلم إلى صورة الإرهابي.. جل الفكاهيين من الكبير كولوش والرائع ديبروج مرورا بمجموعة المجهولين ودوبونتيل وغي بودوس واسماعين... واللائحة طويلة... جلهم أهانوا صورة العربي في أعمالهم "الشاخرة ..". بل حرضوا الفرنسيين الذين لا يقرؤون بين السطور على العرب... ففكاهتهم الساخرة تلك، وفي مواجهة جمهور واسع يفتقد ردود الأفعال النقدية، هددت فعلا صورة العربي، والمغاربي على وجه الخصوص... وكلهم ما شاء الله يقولون إنهم يعبرون فقط عن شخصيات عنصرية موجودة داخل المجتمع الفرنسي... بل أكثر من ذلك، فهم يقولون إنهم ينددون بالعنصرية عن طريق سخريتهم اللاذعة في حق العربي.. هكذا إلى أن وصل جون ماري لوبان العنصري إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، تاركا وراءه الاشتراكي ليونيل جوسبان... ثم ماذا لو تفوه أحدهم عن اليهود، كما على العربي؟ أكيد، ستشير إليه الأيدي بكونه »معاديا للسامية« وسيكون مصيره التهميش... وهنا لا حديث عن شخصيات موجودة داخل المجتمع ولاهم يضحكون.. أم أن ليس هناك في فرنسا أناس يقولون ما يقوله الفكاهي المغضوب عليه؟ ثم ماذا؟ ماذا يريد أن يقول هؤلاء الذين يصيحون بالمنع؟ هل ديودوني مجرم؟ إذا كان كذلك، فهناك عدالة! فيكفي الأسطوانة القديمة التي حفرت بكثرة استعمالها للتطابق بين نقد وحشية الجرائم في حق الشعب الفلسطيني، والمعاداة للسامية؟! شخصيا، أحب كثيرا الفكاهي كاد المالح، هذا الذي سماه الرجل الطائش أحيانا فكاهي الأبناك.. أعرف فنانين وكتاب يهود يعطون لكلمة الحق حقها ولن أحط الرحال بحال لمشاهدة قفشات ديودوني... هذا رأيي يلزمني، ولكل ذي رأي رأيه... أما المنع... فسيكون وصمة عار على جبين بلدي الذي قطع أشواطا ولا رجوع إلى الوراء... فالعمل سيكون فوق الخشبة، هدفه أولا وأخيرا الإضحاك... وليست محاضرة سياسية أو إيديولوجية، كما يريد أن يوهمنا البعض... ورحم الله بول فاليري الذي قال: إن الذين يخشون النكتة، ويخافون منها، ليست لهم ثقة كبيرة في قوتهم...«. ولهذا، لن أتضامن مع صف أصحاب المنع، دفاعا عن صورة بلدي... فلا مساومة وماذا عساني أقول لأولئك الذين هاجمتهم ذات يوم، لأنهم أرادوا منع شريط "»تنغير، جيروزليم"« ذات مهرجان وطني؟! لا للكيل بمكيالين.. ولا لمنع عمل فني، كيفما كان نوعه... بشرط أن يقنعونا أصحاب المنع بأن الرجل سيخلق فعلا خطاب الكراهية، و التحريض على العنف... فنحن اليوم ، لاحق لنا في الحكم على النوايا... وآتوا برهانكم إن كنتم صادقين! وصريحا سأكون... قد لا أتفق مع دخوله إلى بيوتنا والحديث معنا عبر الشاشة الصغيرة... أولا، لأن آراءه ومواقفه لاتهمنا لا من بعيد ولا من قريب... وثانيا قد يخرج استفزاز سيتم تأويله حسب الهوى هناك وهنا... ولكل حادث حديث.