بدا لي في اللقاء الأول رجلا من الأفق، أو في الأفق. القاهرة سنة 2006. شاركنا معا في ندوة علمية بمناسبة ذكرى ابن خلدون. شارك من المغرب عبد الهادي التازي، ولم أكن أعلم بذلك إلا يوم الندوة، وبنسالم حميش ومحمد المصباحي وكاتب هذه السطور. دُعيت من طرف المجلس الاعلى للثقافة للمشاركة بدراسة في موضوع «ابن خلدون في الأدب العربي الحديث». كان على رأس المجلس الناقد جابر عصفور، الذي كان يبدي اهتماما خاصا بالمغاربة. قدمت دراسة حول حضور شخصية ابن خلدون في الرواية العربية، ودرست رواية «العلّامة» لبنسالم حميش، وفي المسرح، وتناولت مسرحيات قصيرة في كتاب واحد «منمنات عربية» للمسرحي السوري سعد الله ونوس. من نتائج الدراسة أن ابن خلدون شخصية متعددة، غزيرة الفعل في التاريخ، متأثرة بالمآسي والأفراح. فبنسالم حميش المغربي رأى فيه شخصية فاعلة بقوة، طافحة بالحب والمعاناة، قريبة من «هاملت» لا تفعل إلا بعد تفكير، أو أن التفكير نفسه يمكن أن يلخص الفعل. وهذه هي رؤية المفكرين المغاربة عموما، نموذج محمد عابد الجابري وعزيز الحبابي. أما المشارقة، وخصوصا السوريين فقد رأوا فيه شخصية متقلبة، تبيع الخدمات، وتتلون حسب المصالح والرغبات. أما أنا فقد وقفت في الصف الأول؛ صف «العلامة»، والعصبية والدولة». فابن خلدون ذاق المحن في مغارب العصبيات، فانتقل إلى مصر هاربا من سُعار القبائل، وعمل قاضيا للقضاة، ودرس في مدارسها، ودخل أكبر بيوتها وأرقى قصورها. كنت قد قرأت ما كتبه الجابري والحبابي وحميش والتازي، حتى كادت كتبهم تتلاشى بين يدي. أما الموقف المشرقي، والمتمثل في سعد الله ونوس، فقد كان نتيجة أحداث شارك فيها ابن خلدون، خصوصا أثناء محاولة الغازي تيمورلنك الدخول إلى دمشق. فاستدعي وفد هام من مصر لمفاوضة الغازي، وكان منهم القاضي المغربي ابن خلدون. وقد ارتكز ونّوس على الفصل الخاص بلقاء ابن خلدون بتيمورلنك، في ليلة منذرة بالدم، على مائدة عشاء مُرعدة مُبرقة. لم يكن على ابن خلدون تلك الليلة سوى الاستعانة بكل حيلة مسعفة للخروج من ورطته مع غاز لا يرحم. فكتب له، بأمر منه، كراسات عن المغرب، لكنه كان ضعيفا في مفاوضته وثنيه عن الدخول إلى دمشق. بين دول المغارب، ومصر، والشام، عاش ابن خلدون حيوات متوترة، متلونة. كنت أدلي بمواقفي على منصة الندوة التي كان يُسيّر أشغالها الكاتب المصري أحمد مجاهد، لاحظت في الصف الأول وجود الأستاذ عبد الهادي التازي ومرافقه الشاب، إلى جانب الناقد المصري محمود أمين العالم والشاعرة المصرية فاطمة ناعوت. في نهاية الندوة قال لي العالم: برافو، واستدعتني ناعوت إلى تناول قهوة، أما التازي فقال لي جملة جميلة طيها الحب: «لقد شرّحت وملّحت، زر جدتك في الرباط، هذه بطاقتي، عليها الهاتف والعنوان». تلك عبارة عليّ تذكرها دوما، فهي تتركك صامتا لوقت طويل ريثما يعد المرء إلى مائة. تلك جملة عظيمة قيلت لي وجعلت قلبي يخفق أحمر تحت ضلوعي. قالها رجل عظيم لا يرتفع عن الأرض ولو بسنتمتر واحد، وبقي كذلك حتى عاد إليها.