السؤال الرئيسي الآن والذي سأنطلق منه في مداخلتي هاته هو: هل الدين يريد أن يجعل من الإنسان مخلوقا آخر مختلفا عن ذاته. أم أنه يخاطب بصفته هاته أي بصفته إنسانا؟ يقودنا هذا إلى أن نتساءل ماهو أساس الدين ونحن سننطلق من فرضية أساسية هي أن أساس الدين هو الفطرة الإنسانية نفسها، ثم في فقرة ثانية سوف نبني على هذا الأساس آثارا تتعلق بماذا يترتب عن إنسانية الدين وفطرية الدين وعدم تمايز الدين عن الذات الانسانية. إنكم تعلمون أن أول معضلة تواجه الباحث في تاريخ الأديان عموما، وفي مقارنة وفلسفة الدين، هي تعريف الدين ذاته. هناك تعاريف شتى يمكن أن نخلص منها إلى تعريف مبسط، الدين هو مجموعة من القواعد التي توجه أخلاق الانسان وبالتالي توجه سلوكه المترتب عن هاته الأخلاق. منذ القرن 19 ظهر التفكير جديا في مسألة الدين وظهور الفروع الثلاثة المعروفة في دراسة الأديان، تاريخ الأديان، مقارنة الأديان وفلسفة الدين. كان المذهب الأول الذي حاول أن يبحث في نشوء الدين هو المذهب الاحيائي، حيث قال إن أساس نشوء الشعور الديني هو إحياء الانسان القديم للأشياء واعتبارها روحا أو عبادة أرواح الأسلاف ثم ظهر مذهب ما قبل الاحيائية والذي قال أنه حقيقة كانت هذه القاعدة ولكن سبقتها قوة الاعتقاد في قوة الايمان أي أن هناك قوة خفية وراء هذا العالم تسيره، ومازلنا نلمح آثار هذا المذهب في أمريكا الجنوبية وفي بعض القبائل الاسترالية، كما بحث في ذلك عالم الاجتماع المشهور الفرنسي إيميل دوركهايم . هناك نظرية ثالثة وهي المذهب الطبيعي الذي قال أنه نتيجة العوامل اللغوية، فإن الانسان البدائي لم يكن يميز بين الأشياء وبين أسمائها فأصبح في ما بعد يعبد الأسماء وبالتالي يعبد الأشياء الطبيعية. وهناك المذهب الرابع وهو معروف وهو المذهب الطوطمي، والطوطم هو شيء أو حجر أو رمز تستخدمه القبيلة وتعتقد فيه. لكن هذه المذاهب التي ظهرت في القرن 19 لم تجبنا عن سؤال أساسي وهو: ما الدافع إلى الاعتقاد بهذا المعتقد الذي سمي دينا. في القرن 20 ظهر مذهب حديث يقول بأن أصل الدين هو التفكير ذاته، أي عن الانسان القديم عندما كان يأكل ويفكر ويتزاوج، فإنه كان يمارس الدين وبالتالي فالدين مرادف للتفكير كيف ذلك? في أربعينيات هذا القرن كان هناك عالم ألماني مشهور هو الأب فالهالم شميدت الذي بحث طويلا في هذه المسألة وكتب كتابا في 12 جزءا وهو أصل فكرة الاله، وانتصر للرأي القائل بأن أصل الدين هو منبعه ببساطة الفطرة الانسانية لا أقل ولا أكثر، وبأن التوحيد سبق الشرك .وعندما نبحث في صلب هذه الفكرة نجد أن الانسان البدائي لم تكن له لغة ولكنه كان يفكر، ففكر في موجود مسؤول عن العالم ولكنه لم يجد له اسما ولم يجد له لغة تعبر عن قدرته، ونتيجة التطور اللغوي اختلفت العقائد التي مازلنا نشاهدها إلى الآن. من نتائج ترادف التفكير مع التدين ندخل إلى الأديان السماوية المعروفة. إذا كان التفكير مرادفا للتدين. فما هو موقف التوراة، موقف الإنجيل وموقف القرآن من هاته المسألة. إذا كان التفكير مرادفا للتدين، فإن الأرضية التي يمكن أن نتساوى فيها جميعاً وأن نتحاور هي إنسانية الإنسان. وإذا أردنا أن نبحث عن لغة مشتركة لإنسانية هذه الإنسان، فهي المعرفة. فالمعرفة هي التي توحد الإنسان مهما كانت عقيدته، وحينما نتكلم عن المعرفة، فإننا نتكلم عن عناصر تحصيل هاته المعرفة عن الحواس، عن الذات وعن العقل. فكيف كان موقف الوحي من نظرية المعرفة. التوراة من اسمها تعني التعليم، والقرآن يعني العلم. فما يقرأ هو ما يحمل، ونحن نجد في الشعر العربي القديم في معلقة عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا أي لم تحمل جنيناً، واقرأ تعني أحمل العلم وأول آية في القرآن. احمل العلم أي نظرية للمعرفة. في التوراة تقول في البدء خلق الله السماوات والأرض. تخبرنا كيف بدأ الخلق? إذن هناك معرفة. والإنجيل في تعريفه هو بشارة، بشارة بماذا. بمعلومات. إذن هو معرفة. اسم الكتب السماوية الثلاثة ينم عن معرفة، ولكن إذا دخلنا إلى الخطوط العامة لهذه الأديان، نجد أنها تعطينا الأسس العامة لنظرية المعرفة. في نظرية المعرفة باعتبارها حقلا من حقول الفكر الحديث هي تلك النظرية التي نحاول أن نجيب من خلالها عن أسئلة من قبيل: ماذا يمكنني أن أعرف. كيف يمكنني أن أسلك بناء على هذه المعرفة. وما هي درجة يقيني في ما أعرف. هذا هو مبدأ الإنسان التاريخي في تحصيل المعرفة، ولا يتناقض في شيء مع نصوص الوحي. وأنا أقول نصوص الوحي، ولا أقول الدين بصفة عامة كمجموعة من المفاهيم... إلخ. نظرية المعرفة بناء على هذه الأسئلة تعتمد على عناصر ثلاثة: تعتمد على التفكير، ثم تعتمد على الحكم ثم تعتمد على تنفيذ هذا الحكم، والأمر هنا لا علاقة له بالأحكام القضائية أو الأحكام القانونية. والتفكير هو احتكاك الحواس مع العالم الخارجي، فأن أحس مثلا بأن هذا الشيء بارد وصلب. عقلي يقول بأنه صلب فهو قنينة وهذه فكرة. عندما أصدر حكم بناء على فهم معين، فهذا الحكم يرتبط باختياري، وعندما أخرج إلى العالم الخارجي، فأنا أنفذ ما فكرت فيه، وبالتالي فالحكم أو الفهم والتفكير والتنفيذ هي عناصر أساسية في نظرية المعرفة? هذه النظرية تعتمد على احتكاك الذات بالعالم الخارجي، ولكن بناء على فطرة. كارل بوبر وهو فيلسوف «لا أدري» لا يؤمن بأي دين يقول بأن مسألة العقيدة ضرورية لانطلاق الفكر. فالفكر لابد له من شيء يشك فيه، وما يمكن أن يشك فيه هو عقيدته التي تكون عقيدة خام فيريد أن يتأكد منها. في النص القرآني الفطرة أساس الحياة وضدها الغريزة. طبعاً نحن لا نسطر كثيراً على مفهوم الفطرة وتمييزه عن الغريزة. الفطرة هي ضد الغريزة. الغريزة هي تلك الخصال التي يمكن أن نكررها يومياً بناء على رغبات طبيعية في الإنسان: رغبة الأكل، رغبة الشرب، رغبة التزاوج... إلخ. ونكررها يومياً، لكن الفطرة هي عكس هذه الرغبات. نحاول تنظيم هذه الغرائز. فلدينا غريزة الأكل، ولكن تنظيم أوقات الأكل فطرة.. لدينا غريزة الجنس، ولكن تنظيم الجنس في إطار الزواج فطرة. هكذا دائماً تحاول الفطرة أن تهذب الغريزة. أما الاقتصار على الغريزة لوحدها فالقرآن يسميه موتاً «"ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِقُ بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون».. 171. سورة البقرة. وهذا يحيلنا إلى أن الفطرة التي بني عليها التفكير، تجعل العقل في القرآن عملية? العقل في القرآن ليس عضوا، وإنما هو عملية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية? السمع، البصر، الفؤاد... «إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسؤولا» عملية الحواس التي تعطينا العقل هي أساس نظرية المعرفة في القرآن الكريم، وبالتالي فجميع الآيات التي نستقرئها في القرآن، عندما نقرأ السمع والبصر والفؤاد، نجد ضرورة الشكر، «الله أخرجكم من بطون أمهاتكم... لعلكم تشكرون» صدق الله العظيم، وبالتالي فالعقل في القرآن هو هاته العملية التي تتأسس عليها نظرية المعرفة، وهو لا يتناقض في شيء مع نظرية المعرفة في الفلسفة الحديثة التي تقول بأن العقل يجمع معلوماته عن طريق احتكاكه بالحس. فما موقف هاته العملية، عملية العقل في القرآن من الدين. هنا يجب أن نميز بين عنصرين اثنين: الدين والوحي، نص الوحي هو ذلك النص المادي الذي يعتبر مصدراً، ويمكن لأي شخص أن يفسره بطريقته. هذا نص الوحي. عندما نقول القرآن، القرآن المادي من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، هذا وحي. أما الدين فهو مجموعة الفهوم والتفاسير والاتجاهات والمذاهب التي تشتغل على هذا النص، هاته تشكل الدين وربما لا ننتبه إلى هذا التميز ودائما نقول علاقة العقل بالدين أو تصادم العقل بالدين. لا يمكن هذا السؤال ممنوع أو سؤال غير مشروع. هل يمكن أن نقول علاقة الفلسفة بالعقل أو علاقة العقل بالمعرفة. لا يمكن. الدين معرفة. قلنا إن الرسائل السماوية جاءت من أجل المعرفة، من أجل توجيه الإنسان. لا يمكن أن تكون متناقضة مع العقل. الذي يمكن أن يتناقض مع العقل وأن يحجز على العقل، هو فهوم الناس التي شكلت في محصلتها ما يسمى بالدين. وإذا ميزنا بين الدين والوحي، فإن نص الوحي نتساءل حوله. هو نص الوحي. هذا هو موضوع للمعرفة أم مصدر للمعرفة. يعني أن الدين هل يكون مصدرا للمعرفة أم هو نفسه.. نمارس عليه وسائل البحث ويكون موضوعاً لبحثنا. الجواب هو أن الدين وحتى نص الوحي لابد أن يكون موضوعاً للبحث، لأن الإيمان يعني التصديق، والتصديق لا يكون إلا بالعقل. ولا يمكن في الأشياء التي يمكن أن تكون مبنية على العقل والحرية أي لا تكون مبنية على حرية الاختيار وعلى العقل. وبالتالي، فإن نص الوحي، لا يمكننا أن نتعامل معه إلا باعتباره موضوعاً للبحث وليس مصدراً للمعرفة وهذه بوابة أساسية من أجل موضوعنا. لماذا نقول هاته الأشياء حتى لا تكون عامة، فإن لدينا مناهج يمكن أن نختار من بينها ما يسمى بالمنهج الإبراهيمي ونحن نختار ابراهيم الخليل لأنه أب الديانات الثلاث. المنهج الابراهيمي سبق ما يسمى بالمنهج الديكارتي بحوالي 2000 سنة، و لا ينبغي أن نسميه بالشك الإبراهيمي وإنما هو الحيرة الإبراهيمية، الحيرة من فعل حاور. وحاور أن تردد. وحينما أحاورك فإنما أريد منك أن تمدني بأشياء أنا حائر فيها. كذلك حاور ابراهيم الخليل ربه، واختيار ابراهيم الخليل في هذه النقطة ليس عبثا لأنه يحاور الله ويحاور الإنسان العادي. كيف كان حوار ابراهيم الخليل. ابراهيم كانت له عقيدة، هاته العقيدة من فطرته فهو رأى القمر فظنه إلها، ثم عندما أفل القمر قال لا يمكن أن يكون هذا إلها، ثم رأى كوكبا فقال هذا إله وعندما أفل الكوكب قال لا يمكن أن يكون هذا إلها، ورأى الشمس فقال هي إذن إله هي أكبر منهم جميعا فلما أفلت قال لا يمكن أن تكون هي الاله فالإله لابد أن يكون خارج الزمان والمكان، خارج هذا الكون، هذه هي عقيدته التي هدته إليها فطرته. ولكن هل توقف ابراهيم الخليل عن التفكير وعن الحيرة. أبدا، كانت له عقيدة جازمة لكن في حيرته سأل الله جل جلاله فقال «إذ قال ابراهيم أرني كيف تحيي الموتى.. هو ذهب إلى المختبر، أراد أن يعرف كيف تتم عملية إحياء الموتى. لم يوبخه الله تعالى، لم يقل له إن سؤالك فيه شرك. قال: «أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي». بماذا أجابه الله. قال «فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم».هذه الخطوات التي دل الله فيها ابراهيم، هي ما يسمى اليوم بالمختبر العلمي. قال له افعل تجربة وسوف تعرف كيف أخلق?? عندما مر ابراهيم الخليل من هاته التجربة وصل إلى قناعة جازمة. اطمأن قلبه إلى ما وصل إليه بفطرته تصدقه التجربة، فسمي في مصطلح القرآن إماما للناس. «إني جاعلك للناس إماما».. إماما في ماذا? إماما ليس من الأشياء التي نسمع عنها من طرف الرؤية السطحية للدين. وإنما إماما في الإيمان بالفطرة وإماما في الحيرة والشك العلميين اللذين يقودان إلى البحث العلمي للوصول إلى يقين جازم. نتاج اعتبار الوحي موضوعا للبحث، يقودنا إلى نقطة أساسية ربما نحن لا نهتم بها لحد الآن وهي التمييز في الدين. التمييز في تناغم الوحي بين العبادة وبين الشعائر الدينية. الآن إذا سألت إنسانا وقلت له: ما هي الصلاة يجيبك. عبادة، والزكاة. عبادة أو الصوم. عبادة ولكن القرآن لا يسمي الصلاة عبادة القرآن يقول بأن الصلاة من شعائر الله، من ذكر الله. «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» «في مخاطبة الله لموسى عليه السلام يقول له: «اعبدني وأقم الصلاة لذكري»? لو كانت الصلاة عبادة لما عطفها على العبادة. إذن العبادة شيء والصلاة شيء.. تعلمون أنه كان هناك مفارقة عربية بامتياز ولكن لا نقرأ عنها شيئا، الاوربيون هم الذين بحثوا فيها. هي حضارة الرافدين. في بلاد الرافدين كانت هناك امبراطورية تسمى الامبراطورية الاكادية. سركون الأكادي أول امبراطور في التاريخ الاسلامي. ويذكر أن امبراطوريته كانت تصل الى حدود مايسمى اليوم بإيبيريا والجزر البريطانية وهي امبراطورية عربية قديمة. هنري فرنكفورت في كتابه "فجر الحضارة" قال إن بلاد الرافدين كان لها أن تغزو العالم لماذا. لان العبادة في عرفها لم تكن تعني الشعائر وإنما كانت تعني العمل.. وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم «العمل عبادة»? عبد في اللسان العربي القديم تعني خلق، عمل، انجز، ولذلك يقول الله تعالى "عباد الله "بمعنى مخلوقات الله. وعندما يقول أعبدوني، بمعنى اعملوا ابتغاء مرضاة الله. لا علاقة لها بصلوا وزكوا.. صلوا وزكوا هذه شعائر لا علاقة لها بالعبادة. عندما نؤمن بأن العمل عبادة وهذا لا يمكن أن يكون رأيا وإنما من صلب القرآن ومن صلب التاريخ الاسلامي والعربي القديمين، فإن أرضية الحوار تصبح معدة ويصبح نص الوحي رافدا من روافد العمل. رافدا من روافد البحث العلمي.. رافدا من روافد تقديم أشياء معينة للحضارة. لا يصبح مبدأ العمل عبادة مجازيا. عندما ندخل الى بعض المنتديات لا نريد أن نسميها نجدهم يحاربون هذا المبدأ ويقولون إن حديث "العمل عبادة" حديث غير صحيح ولكن في التاريخ واللغة القرآنية والحضارة الاسلامية نجد أن مفهوم العبادة يرادف العمل. أما الشعائر فإنها مختلفة تماما عن العبادات. ويمكن أن أختم في هذا الباب بضرب مثال بالنشيد الوطني. النشيد الوطني ضروري هو رمز للبلاد والجيش يردد النشيد يوميا. ولكن هل يربح الحرب بذلك النشيد أبدا. النشيد ضروري ولكن العمل في الحرب هو الذي يضمن الانتصار. الصلاة كشعائر والشعائر الخمس ضرورية ولكن العمل والبحث وعدم التصادم مع نص الوحي وبين ما سمي بالعقل أو نظرية المعرفة هو الذي يضمن لنا جسر الاستمرار. وبالتالي إذا كان التفكير مرادفا للتدين وإذا كان نص الوحي يؤسس لنظرية المعرفة ويعطينا عناصرها التي لا تتناقض مع الفكر الحديث، فإن القول بتناقض الدين مع العقل وعدم قدرة العقل على الإتيان بأشياء جديدة أو عدم قدرة العقل إزاء النص هو ليس قول الوحي، بل قول الذين يفهموم الوحي أو يريدون أن يوجهوا الوحي على مقاسهم والى أهدافهم الخاصة.