بني الحوار الوطني لإصلاح العدالة على مرتكزات ظل وزير العدل والحريات مصطفى الرميد يرددها بشكل مكرور على كافة المتدخلين في منظومة العدالة من قبيل المقاربة التشاركية والتشاور والحوار وغيرها من المقولات التي، وإن كانت من أسس ومرتكزات الفكر الديموقراطي، فإن ترديدها ظل في إطار الشعارات الاستهلاكية. وقد تلقت وزارة العدل والحريات الدعم اللازم والسند الكافي من لدن كافة أجهزة الدولة، ابتداء من الرعاية الملكية السامية، ومرورا من الحكومة بكل قطاعاتها ومكوناتها، وانتهاء بكل مكونات الأسرة القضائية الكبيرة... ورغم الملاحظات التي اتجهت إلى طريقة تكوين اللجنة العليا للحوار الوطني لإصلاح العدالة والتي كانت لوزير العدل والحريات اليد الطولى في تشكيلها، رغم الشعارات التي سبقت الإشارة إليها، وهو ما يدل على حرصه الشديد على التحكم في تركيبتها تمهيدا لتوجيهها نحو المنظور الذي رسمه شخصيا وحزبيا لهذا الورش الإصلاحي. ولعل الموضوع الذي استأثر باهتمام الجميع ممن شارك في فعاليات الحوار الوطني لإصلاح العدالة أو ممن تتبع أطواره وتداعياته، هو موضوع «النيابة العامة» والوضع الذي ينبغي أن تتبوأه في ظل الدستور الجديد. بيد أن السيد وزير العدل فاجأ الجميع بانقلابه التام على موقفه الأصلي سواء عندما كان محاميا شهيرا بخرجاته الإعلامية وتصريحاته النارية، أو أثناء مهامه كنائب برلماني ضمن فريق حزبه المعارض، إذ أصبح بقدرة قادر مدافعا شرسا عن تبعية النيابة العامة لوزارة العدل. وفي مقابل هذا التحول غير المبرر في موقف الوزير، برز توجه قوي من داخل فعاليات الحوار الوطني، وتحديدا من قلب اللجنة العليا، ينادي بضرورة تفعيل المبادئ الدستورية الجديدة المتعلقة بالعدالة، والتي تهدف إلى استقلال النيابة العامة عن وزير العدل وإعادة هيكلتها بما يجعلها تحت إشراف قضائي مستقل عوض التبعية للإشراف السياسي. وقد كانت نتيجة هذا النقاش بعد ودراسة وتمحيص خلال كافة أطوار الحوار الوطني، هو تزكية الاتجاه الذي ينحاز إلى إبعاد وزير العدل عن رئاسة النيابة العامة ووضعها بالتالي تحت رئاسة الوكيل العام لدى محكمة النقض. وبالتالي فقد انتصر التوجه الحقوقي الشامل الذي يفصل بين السلط ويضع الحدود الضرورية التي تمنع تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية. لكن المؤسف أن الحزب الحاكم بحكومته وبرلمانييه ونخبه أظهروا طبيعتهم المتعنتة والتسلطية، إذ تنكروا للمجهود الكبير الذي تم بذله من خلال الحوار الوطني، والمفروض فيهم أن يكونوا أول محترميه والمدافعين عنه، واختاروا الالتفاف على الخلاصات الرصينة للحوار والتي انتصرت لاستقلالية النيابة العامة عن وزير العدل من خلال برلمانييهم وتصريحات قيادييهم. ونحن هنا لا ننكر حق البرلمانيين في إبداء وجهات نظرهم والدفاع عن مواقفهم وآراهم، كما أننا نعلم أن للبرلمان اختصاصاته الدستورية المكفولة باعتباره سلطة تشريعية أساسية في تعزيز الديموقراطية التمثيلية، لكننا ننبه إلى أهمية المقاربة التشاركية التي تعد من أبرز مستجدات دستور ،2011 وفي إطارها تمت مجريات وفعاليات الحوار الوطني لإصلاح العدالة والذي حظي بدعم ملكي سامي، وتم بإشراك فعلي وواسع لأسرة القضاء وواكبه المجتمع المدني باهتمام وترقب وعززته وسائل الإعلام بالتتبع والإغناء... فكيف لا نأخذ خلاصاته الأساسية بعين الاعتبار في هذه القضية المصيرية؟ لقد كان حريا بوزير العدل أن يكون من أشرس المدافعين عن خلاصات الحوار الوطني الذي أشرف عليه، وكان ملزما أخلاقيا بأن يكون واضحا مع أعضاء حزبه وبرلمانييه لتوجيه النقاش وتهيئ الاختيارات. وكان حريا بالحكومة أن تكون عقلانية في مواقفها وأن تفتح الحوار مع أغلبيتها، وعلى الخصوص برلمانيي العدالة والتنمية وهم القوة العددية بمجلس النواب والسند الأساسي لرئاسة الحكومة وأهم مكوناتها. هذه هي القواعد العقلانية للديموقراطية التمثيلية. أما ذر الرماد في العيون عبر ادعاء الديموقراطية التشاركية وإشراك الفاعلين والمجتمع ثم الالتفاف بشكل فاضح على آرائهم فذلك هو العبث الذي لن يفيد البناء الديموقراطي ولن يؤدي إلى إقرار المقاصد النبيلة للمقتضيات الدستورية الجديدة وتأويلها وتفعيلها الديموقراطي. وفي هذا الإطار لا بد من الوقوف على الملاحظات والتوضيحات الضرورية التالية: - لقد كان الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة مبادرة حكومية اقترحت من طرف وزير العدل نفسه، وهو ما يعني أن الحكومة اختارت طريق الديموقراطية التشاركية التي تنفتح على مختلف الفاعلين المعنيين عوض الاستئثار بمنظور أحادي للحكومة في صياغة مبادئ وسبل الإصلاح. - ولقد نوه الجميع بالمبادرة الحكومية وبالمنهجية التشاركية التي اعتمدتها, حيث تم إشراك كل الفاعلين السياسيين سواء في المعارضة أو الأغلبية، وكل الفعاليات المهنية القضائية، إضافة إلى الانفتاح على المجتمع من خلال حضور فعاليات مدنية سواء في محطات الحوار الوطنية أو الجهوية، إضافة إلى الاستعانة بوسائل التواصل الحديثة وأساسا عبر البوابة الإلكترونية لوزارة العدل من أجل التفاعل مع آراء المواطنين في ما يخص محاور الإصلاح ومن أهم مواضيعه «النيابة العامة».. - وقد تشرف الحوار الوطني لإصلاح العدالة، فوق كل ذلك، بالرعاية السامية لصاحب الجلالة. بل إن خلاصات الحوار حظيت بالتصديق عليها بظهير شريف، كما تم استقبال أعضاء الهيأة العليا من طرف جلالة الملك وعلى رأسهم وزير العدل والحريات وكانت مناسبة لتوشيحهم بأوسمة الاستحقاق نظرا للمجهودات التي بذلوها لإنجاح الحوار الوطني. - وأهم معالم نجاح الحوار الوطني هو التوصل إلى «ميثاق وطني لإصلاح العدالة»، وهو الميثاق الذي تضمن توصيات وجيهة حول استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل. وهو ما يذهب إلى تأكيد الاسقلالية عبر استبعاد وزير العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما من شأنه أن يحد من السلطة الرئاسية على النيابة العامة من قبيل التعيين وإصدار التعليمات والتأديب... - هذا يؤكد بالتحديد رغبة المشرع الدستوري في استبعاد وزير العدل عن رئاسة النيابة العامة نظرا لكون سلطته الرئاسية أصبحت متآكلة مع الوضع الجديد الذي أصبح بموجبه خارج تأليف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما يعني أن الانتقال من الوضع الحالي الذي يرأس فيه وزير العدل المجلس الأعلى للقضاء وهو في نفس الوقت رئيس النيابة العامة، إلى وضع جديد يحتفظ فيه برئاسة النيابة العامة لكنه خارج المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمقتضى الدستور. - إن هذا الوضع يؤشر على أن رئاسة وزير العدل ستكون بالتالي صورية ليس إلا، وهو الأمر الذي ينبئ بانزلاقات التسيب وعدم الانضباط، وفي ذلك مخاطر حقيقية تحدق بصيرورة مؤسسات الدولة وتهديدات للبناء الديموقراطي الذي حرص المشرع الدستوري على تحصينه. لكل هذه المعطيات والمؤشرات، فإننا نشدد على أن وزراء العدالة والتنمية ونوابهم كان أحرى بهم أن يكونوا في مقدمة المحترمين لخلاصات الحوار الوطني وفي صف المدافعين عن بنود الميثاق الوطني لإصلاح العدالة، وكان على وزير العدل أن يترفع على أنانيته وذاتيته وأن يكون في مستوى مسؤوليته السياسية والحكومية وأن يقدر الثقة التي وضعها فيه جلالة الملك بتكليفه بالحوار الوطني ورعايته السامية له ودعمه وإنجاحه واستقبال هيأته العليا وتوشيحها... وليس التناور والمراوغة من أجل الوصول إلى أهداف سياسوية صغيرة. إن الموضوعية تقتضي أن ننبه السيد الوزير ومسانديه في الحكومة والحزب، بأن موضوع إصلاح العدالة أكبر وأنبل من أن نمرغه في المزايدات السياسوية البئيسة. فليس من العقل في شيء أن يصرح نائب برلماني محترم بأن «من جاء بهذا المشروع يريد أن يجعل الملك في مواجهة مباشرة مع الشارع». فمثل هذه التصريحات تنبئ عن سعي مكشوف للتناور في محاولات بائسة للالتفاف على مقاصد استقلالية السلطة القضائية ومبادئ فصل السلط وتعزيز البناء الديموقراطي وهو ما سيقوي المؤسسات ويحميها بدل التخويف من المواجهة ومن المجهول بطرق الشعوذة والفكر الخرافي التي لا تستند للرؤية العلمية الأكاديمية. فالملك بالإضافة إلى كونه رئيس الدولة، هو رئيس عدد من المجالس الدستورية ابتداء من المجلس الوزاري نفسه ثم المجلس الأعلى للأمن وكذا المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ورئاسة جلالته لتلك المجالس هي من صميم النظام الدستوري المغربي الذي ارتضاه المغاربة من خلال دستور 2011. أضف إلى ذلك أن القضاء هو مهمة من مهام الإمارة، والقضاة يمارسون هذه الوظيفة بتوكيل من أمير المؤمنين، والنيابة العامة هي شطر من القضاء، والأحكام تصدر باسم الملك وطبقا للقانون، والنيابة العامة ليست سوى طرف في هذا الحكم تنوب عن المجتمع بأكمله. لكل ذلك نقول لمن اختار الدفاع عن تبعية النيابة لوزير العدل أن يكشف عن مبرراته الحقيقية وعن نواياه التي تحركه، وليس الاختباء وراء مبررات واهية وتخويفية ترتكز على المقولات الجاهزة التي أكل عليها الدهر وشرب وتعود إلى زمن مضى كان يلجأ فيه بعض المتنفذين للمقاربة الأمنية وتخويف الحاكم من المحكوم، فالمغرب دولة قوية بمؤسساتها وبتوابثها الوطنية الراسخة. أما في ما يخص مبررات الدفاع عن تبعية النيابة العامة بدعوى التمسك بالمبدأ الدستوري في ربط المسؤولية بالمحاسبة، فهي مبررات متهافتة تؤكد قصور الرؤية الدستورية الحقوقية المؤطرة للموضوع. فالدستور وضع الإطار العام للمسؤولية والمحاسبة التي تنبثق من روح القانون، والتي يستحيل على أي مسؤول أن يزيغ عن مقوماتها تحت طائلة القانون نفسه، ذلك أن التعليمات يجب أن تكون قانونية وكتابية تحت طائلة عدم تنفيذها من قبل أعضاء النيابة العامة، ولو اقتضى الأمر رفعها للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بكافة مكوناته للبت فيها. والواقع العملي خلال الوضع السابق على دستور 2011 أثبت بما لا يدع مجالا للشك محدودية المراقبة البرلمانية والمحاسبة السياسية لوزير العدل، إذ لم نعش في أي من المراحل السابقة إقالة أو استقالة لوزير للعدل نتيجة محاسبته عن التجاوزات التي عرفتها النيابة العامة، وهي التي كانت أداة طيعة بيد السلطة التنفيذية، وسجل التاريخ ارتكابها لخروقات سافرة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان اعترفت الدولة في ما بعد بوقوعها بصفة رسمية من خلال تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة. ومن هنا نتجه للسيد وزير العدل وندعوه أن يتحمل مسؤولياته: فهو من أطلق مبادرة الحوار الوطني الذي نوه به الجميع وثمن خلاصاته، وهو من رفع تلك الخلاصات لجلالة الملك وحظيت بشرف التصديق عليها، وهو من جاء بالمشروع في إطار مهمته الحكومية... فما على السيد الوزير إلا أن يتحلى بالمسؤولية وأن يدافع عن المشروع وأن يعبئ أغلبيته للدفاع عنه وتلك هي أبسط متطلبات وقواعد الديموقراطية. فقد صرح وزير العدل لإحدى المنابر الصحفية بأن «نتائج الحوار الوطني لإصلاح العدالة ليست قرآنا منزلا ولا وثيقة مقدسة. وطالب في الوقت نفسه السلطة التشريعية بممارسة صلاحياتها»، بل استطرد في نفس التصريح معبرا عن ندمه على دفاعه السابق عن خروج وزير العدل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية... وذلك لعمري قمة الاستهتار والتلاعب بالمواقف في قضية على قدر كبير من الجدية والأهمية. فالديموقراطية كل لا يتجزأ، فإما أن نكون ديموقراطيين أو لا نكون. والفكر الديموقراطي له فلسفته وأسسه التي لا تقبل التجزيء أو التلاعب والمراوغة التي قد تجدي خلال المناورات السياسوية أو الحملات الانتخابية لكنها لا تجد لها موضعا ولا مكانة في الفكر الديموقراطي الرصين. فالتلاعبات والمناورات سرعان ما تنكشف، والحيل والأكاذيب الانتخابية سرعان ما تتضح حقيقتها للمواطنين وتنتهي بمن حملتهم للمسؤولية إلى الحضيض والانحطاط السياسي ومزبلة التاريخ مليئة بالنماذج الزائفة.