يتهيأ للمرء، عندما ينهي قراءة ديوان «أرض الفراشات السوداء» للشاعرة ليلى بارع، بأنه خارج من قصر أندلسي مليئة حيطانه بزخارف وزليج متناهية في الدقة في اختيار الألوان والأشكال و الأحجام. وكعادة هندسة القصور الإشبيلية والقرطبية، ينبهر القارئ لفساحة الجنان وزهورها المتفتحة وطيورها المغردة. لا يشعر المرء ببناء مصطنع لقصائد الديوان، بل هناك عفوية شبه طبيعية، يقودها إبداع حدسي، يحيك خيوط القافية ويعطيها رونقا خاصا، يوحي للمتمعن في دراسة الديوان تمكن الشاعرة من صناعتها وإتقانها لأسلوبه. الديوان حافل، من الناحية الخطابية، بالإستعارات والتشبيهات؛ كما أنه غني سيميائيا بطبقات معنى كثيفة ورموز، تفرض على القارئ السفر إلى ما وراء المعنى الأولي لتعرية الطبقات السميكة التي تؤسس قصائده. وهذين البعدين معا، الخطابي والسيميائي، هما اللذان يضمنان للديوان دسامة خاصة، سواء فيما يخص المفردات المستعملة أو المضمون. تتقاطع المواضيع في هذا العمل الشعري الجريئ، متأرجحة بين نغمة رومانسية محمولة على «أجنحة» الفراشات ونفحة واقعية، تعري على بعض القضايا النفس-اجتماعية التي تقلق الشاعرة، ولربما أشعلت قريحتها الشعرية، مقدمة إياها بمفردات غير بريئة في عمقها، مبللة حتى النخاع بتحد ظاهر لواقع بئيس، يموت فيه المرء وهو ماشيا على قدميه، فاقدا حلاوة الحياة وهاربا في عوالم معوضة، كما نلمس ذلك في قصيدة. :حشيش الطريق». ما قد يهم ناقدا متبصرا في الديوان هو اختيار العنوان، لأن فك لغز العناوين هو البوابة الرئيسية في كل عمل إبداعي. في عملية تداعي الأفكار الحرة، الإرادية أو الغير الإرادية، حضرت إلى ذهننا مجموعة من المنتوجات من ميادين إبداعية مختلفة منها المسلسل الفرنسي «الفراشة السوداء Papillon Noir» ونظيره المغربي، بنفس العنوان، الذي قدمته القناة المغربية الثانية »دوزيم« في نوبنبر 2002. كما نجد هذه الفراشات حاضرة بقوة في الشعر: « الفراشة السوداء» لإبراهيم مالك و «الفراشة المحتضرة» لإيليا أبو ماضي، وذكرتها غادة السمان في قصيدتها: «حينما يكون قلبك فراشة»، دون إغفال ديوان محمود درويش «أثر الفراشة». ولا يخفى على أحد الأهمية الخاصة التي أعطاها نزار قباني للفراشة في شعره وتغنيه بها في أكثر من موضع. ويقود تداعي الأفكار السالف الذكر إلى التساؤل الإبستيمولوجي العميق لرمزية «الفراشات السوداء» لليلى بارع. في محاولة لفك الشفرات السيميائية لهذا اللغز، استحضرنا إلى الذهن تقديس الفراشة، على الرغم من غياب أية قوة ولاخصوبة فيها، من طرف حضارات انقرضت، كالحضارة اليونانية. وتفيد أسطورة بروميثيوس، بأن هذا الأخير عندما سقط في بركة ماء، حُلَّ ثم تحول إلى فراشة، ومنذ ذلك الوقت لقبت عندهم بالحشرة الروحية واعتبرت شرنقتها أعجوبة على مر السنين. هذا التحول من حال إلى حال هو ما يكتشفه السابح في البحار العاتية لهذا الديوان، الذي يبحث عن تغيير ما، سواء في الوضع الشخصي أو المجتمعي بكل أبعاده. ف «الفراشات السوداء» حابلة بحلم قد يقع في أرض تقتل الفراشات وتلاحقها وتأذيها. ليس هناك إنسان لا يغتبط ويفرح لرؤية فراشة، لرشاقتها وأناقتها ومنظرها الناعم. ويقول المهتمون بتفسير الأحلام من علماء النفس، بأن رؤية الفراشة في الحلم يدل من بين ما يدل عليه على حدوث تغير جديد في محيط الحياة حيث يعيش الإنسان (تحولها من يرقة إلي فراشة). ما قد يعزز هذا الطرح هو الرجوع إلى حُلم الحكيم الصيني تشوانغ تسو (القرن الثالث ق.م)، لأنه أول مثال على ظهور»رمز الفراشة» في الفكر الإنساني المكتوب. تقول الروايات بأنه حلم بأنه تحول إلى فراشة في الوقت الذي تحوَّلتْ فيه الفراشةُ إلى تشوانغ تسو نفسه. ويدل هذا على «رؤية وجودية» تشير إلى أن «كل شيء هو كلّ شيء آخر». واهتم المحلل النفساني جاك لاكان بهذا الحلم، محاولة منه شرح سبب خوف «الرجل الذئب»، أحد المرضى الذين عالجهم تسيغموند فرويد، من الفراشات. فجاك لاكان يرى أن حاجة الإنسان إلى نقل تجاربه إلى الآخر تبدأ من اللاوعي؛ وعندما يتم التماس بين اللاوعي والوعي، فإن العقل يساعدنا باللغة التي هي، في جوهرها، رموز فعالة. لا بد أيضا من التذكير في هذا الحفر الرمزي للمعنى الذي تُضمره «فراشات» الشاعرة بارع إلى قصيدة «قدر الفراشة» للإنجليزي إيدموند سبينسر (1552-1599). إلا أن هذه الفراشة المسالمة سقطت في شباك عنكبوت، وبهذا لحق بها ظلم واضح. هناك إذن بعد فلسفي وجودي وآخر أخلاقي في رمزية الفراشة. إذا رجعنا ولو في عجالة إلى تراثنا الأدبي العربي، فإننا نجد معنى الفراشة كرمز في اتجاهين مختلفين: وظفت أغلبية الشعراء انجذاب الفراش إلى النار في الهجاء والمديح والعشق (جرير ضد الفرزدق، االمتنبي، سليمان بن عبد المجيد العجمي إلخ). أما المتصوفة فقد استعملوها كرمز إلى «الحلولي» والتغير الجذري للمتصوف. فالرحلة الروحية للمتصوف تُجسّدُ رمزيًّا في رحلة الفراشة إلى اللهب. فكما أن الفراشة تُحرق من شدة حبها للنار، والنار حياة في بعض الميثولوجيات، فإن الصوفي يتخلص من جسده، لتحيى روحه متحدة بالذات الإلهية. إضافة إلى كل هذا، هناك رمز آخر أعمق بكثير للفراشة. ذلك أنها من الحشرات العاملة كثيرا، تتمتع بروح العزيمة للخروج من الشرنقة، أي الظفر بحريتها لكي تحلق في سماء الحياة.معززة مكرمة، تُفرح الناظر وتدخل على نفسه البهجة والأمل في غد أجمل. وهذا ما نلمسه على طول الديوان الذي بين أيدينا. لقصيدة «ملحمة الريح» علاقة وطيدة بعنوان الديوان. إنها تعزز رمزية الفراشة على اعتبار أن الريح تعبر عن تغيير ما، يحدث عندما تمر هذه الريح. إذا رجعنا إلى الميثولوجيا المصرية القديمة، نجد بأن «أمون»، إله الشمس والريح والخصوبة، كانت له القدرة على التجدد وإعادة خلق نفسه. أما في القرآن، فإنها حركة أجسام لطيفة غير مرئية. وعلى الرغم من لطافتها، كالفراشة، تنقل الروائح الجميلة وعبير الأزهار وتنقل حبوب اللقاح وتسوق السحاب، فإنها قوة خارقة تقلع الأشجار وتهدم البيوت والعمارات. ذكر القرآن لفظ «رياح» عشرة مرات وكلمة «ريح» أربعة عشر مرة و «ريحا» أربعة مرات. وعندما ذكرها في صيغة الجمع «الرياح» ربطها بالرحمة والبشارة، فهي حاملات، مرسلات، ناشرات، مُلقحة إلخ. لكن عندما ذكرها بصيغة المفرد، فإنها كانت تعني العذاب (عاصف، قاصف، عقيم، صرصر)، باستثناء الآية 22 سورة يونس: «جرين بهم بريح طيبة» وفي الآية 94 من وسورة يوسف»لما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون». نجد هذه الوظيفة الرمزية المتناقضة للريح عند ليلى بارع كذلك: تهب في بداية ديوانها باردة ثم تهدأ في «مقام» الريح»، راسمة «هدهدا أسودا»، قبل الهروب إلى «كهفها». وهنا بالضبط يصرح رمز الريح في القصيدة عن نفسه، قد يعبر عن الرياح العاتية التي عصفت بالواقع العربي قبل خمسة سنوات، في محاولة لتجديده، قبل أن يكون: «قدر الريح أن توقفها سلاسل الجبال العالية». فالريح التي كانت ترغب دخول الكهف وتأثيثه وتزيينه تهدأ عندما تصطدم بالجبال الديكتاتورية الشاهقة في الوطن العربي. أهم ما حملته ريح الشاعرة هو اللوز المنثور على طول ديوانها. كإرميا في الكتاب المقدس، ترى بارع لوزا كثيرا حملته لها الرياح: «»ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلاً: مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ يَا إِرْمِيَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَاءٍ قَضِيبَ لَوْزٍ. فَقَالَ الرَّبُّ لِي: أَحْسَنْتَ الرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجْرِيَهَا» (إرميا 11:1-12). وتعني كلمة «لوز» في أصلها العبري، المتيقّظ أو الساهر. فاللوز هو أول شجرة تستيقّظ وتزهر ً في شهر يناير. و بما أنه يعني في الأحلام زوال الأمراض والعزل والولاية والتسلط، فإنه يرمز عند كبار شعراء الحرية في الشعر العربي المعاصر إلى الأمل في كسر قيود الإستعمار: محمود درويش»كزهر اللوز أو أبعد»، أو نزار قباني في ديوان»: «إلى بيروت الأنثى مع حبي»، حيث يقول: «قومي من تحت الردم ، كزهرة لوز في نيسان قومي من حزنك إن الثورة تولد من رحم الأحزان» حتى وإن كانت الجبال أوقفت عمل الريح و»داخت» الشاعرة في قصيدتها «موطن الفراشات السوداء» في من قام بتوقيها: «لست أعرف/من أحرق حقل الورد/وأشعل النار في زهر اللوز/وحول قرص الشمس/ في كبد الوقت»، فإن الأمل في التغيير، في شجرة اللوز وثمارها لم يستسلم، كما في قصيدتها «وميض ضوء»: «قالت أزهار اللوز/التي تركها الضوء أمام ليلها البارد/على التل البعيد/ جربي/كأن الضوء يناديك/كأنه يومض فقط لأجل عينيك/كأنه يومض أكثر وأكثر/خلف بابه الخشبي الكبير». ما يعزز هذا الأمل هو أن الريح عندما هبت رسمت المسار: «من هنا الطريق ] وحدنا نصنع الطريق]. كان هذا إذن مدخل من بين المداخل الممكن لقراءة «أرض الفراشات السوداء». إذا حاولنا إعادة بناء معاني الديوان انطلاقا من هذا التحليل السيكو-سيميائي المختصر جدا، أمكننا القول بأنه ديوان يؤمن بالتغيير، بل يتمناه ?ولربما يهواه-. توحي رياحه بأن الشاعرة تفاعلت بقوة مع حركات التغيير التي هبت على الوطن العربي. وعلى الرغم من كل العقبات وعدم النجاح المنشود لهذه الحركات وتطورها إلى ثورات حقيقية، فإن الأمل الذي تحمله شجرة اللوز يبقى قائما.