الشعر..الشعر..الشعر..الشاعر..الشاعر..الشاعر.. الطاحونة الصامتة الهائلة تطحن هذه الكلمات. يسقط على الأرض دقيقا أسود. ماذا يحدث؟ مأساة إنسان، وفضائح تجربة، ومأتم لغة. القارئ لم يعد يرحب بالكلمة. الناشر يسخر منها. الشاعر يبكي حاله. القصيدة فقدت نفسها ولغتها. الشعراء يلتقون ليفترقوا. لا أحد يجلس جنب الآخر. لا أحد يكتب عن الآخر. لا أحد يقرأ للآخر. لماذا يقرأه وهو يشبهه في المحنة والعزلة؟ القصيدة فقدت كل تعريف وتحديد. فقدت حدودها، فقدت شاعرها وخالق كلماتها وصورها وإيقاعها. ماذا بقي منها؟ ريح تصفر وتحرك الأغصان وتدفع الغيوم البيضاء. ماذا بقي من القصيدة غير صدى تاريخها، ورجع أيامها الصامتة والمتفرقة لحظاتها. خرج كل شيء من القصيدة وتدفق في الرواية والمسرحية والمقالة والفكرة واللوحة والصورة الفوتوغرافية. خرجت جيوشها منها إلى الخنادق الأخرى، الجبهات المقابلة المنتصرة ولو بلا نصر. طاردت القصيدة أدواتها وقارئها وشاعرها ومترجمها وناقدها والصحفي المهتم بها، لأنها إيقاعه المتبقي ونفسه المشدود. هربوا كلهم بين الأشجار، وبقيت القصيدة تجري في ستة اتجاهات، تطارد الأشباح بين الأشجار. هل جربته مطاردة بين الأشجار؟ إذن شاهدوا السينما وستطلون من نوافذكم على فكرة الضياع. وهاهي اليوم تفقد حتى جوائزها. الشاعر أصبح معزولا في دوامة القصيدة التي بدأ بها وانتهى بغيرها، خائفا من لغته وقارئه ومترجمه وأعضاء اللجان إن وصل إليهم. كل شيء سديمي. فهل نقول وداعا للقصيدة، وداعا أيها السلاح النافع؟ وإن ودعناها إلى أين نذهب؟ أين نختبئ بلغتنا العالية، (كلامنا السامي)؟ إلى الرواية: «انظروا هاهو شاعر آخر لجأ إلى الرواية». مثلما يقولون: «أدب مغربي مكتوب باللغة الفرنسية». ألا تتشابه العبارات: «رواية بقلم شاعر» أو «روائي فرنسي من أصول مغربية»؟ إعلان طويل عن هوية مركبة وخائفة. لكن وسط كل ذلك يبقى الشاعر هو الأصل في كل شيء. الأصل الصعب والعصي. سارتر كان على هذا الاعتقاد: «الشعراء لا يستعملون اللغة». كل شيء يبدأ، لكن في حالة الشعر يظهر أنه انتهى أو يهيئ (يتهيأ) لنهايته. مالها القصيدة؟ لغة سامية، نبوئية، مكتشفة. ماله الشاعر؟ كائن مرتجف بين الأشجار، وأحيانا يخرج إلى الناس عاريا من غابته، حسب محمد الماغوط. ابحث أيها القارئ، أيها الناشر، أيها المترجم، أيها الناقد، ابحثوا في كل مكان، فتحت كل حجرة قصيدة. على الرواية ألا تنسى ذلك، لعبة النسيان أمر صعب في زمننا. روائيون لا يُحصى عددهم، لو بدأوا شعراء لاختلف نصهم وتنوعت وتعمقت رؤيتهم. ماله الورق؟ كيف أصبح خائفا من القصيدة؟ والحبر، ألم يكن يجري ذليلا صاغرا وراء القصيدة وشاعرها؟ ماله التاريخ، والمجتمع، والفرد، والأسرة؟ ماذا حدث؟ هل من جواب؟ شكرا على معرفته وعدم القدرة على الجهر به.