الحرية اختراق وتحليق وكفاءة استرسال، في القول والفعل معا، لا مجرّد مناخ أو محيط، الحرية ممارسة يستطيعها الإنسان الحرّ، إذ هي خروج عن قيد الداخل ورقابة الذات وعن كوابح المجتمع والسلطة والعقيدة، وهي كفاءات لا يمتلكها المماليك، ممن استعبدهم المحيط. الإنسان الحرّ قد يغير قناعاته وانحيازاته وقد ينزاح بذوقه، بل وينسلخ عن ديانته في أحايين عديدة، ويعبر إلى ضفاف أخرى، ليبرهن لذاته وللمجتمع بعد ذلك، أنه لا يدين بالطاعة لأحد، وأنه يملك قياده ولا يسوقه الآخرون. من هنا تغدو الحرية شأنا صعبا، وتحتاج إلى دربة ونفس طويل، وإلى ترويض لفطرة خاملة. في الأسطر الأولى من رواية اللص والكلاب، يقول الراوي مصورا حال البطل سعيد مهران «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحرّ لا يطاق»، يختصر هذا الاستهلال الروائي مصير البطل في سعيه إلى اكتساب حرية تتجلى كجحيم مرعب، حيث لم ينعم أبدا بمذاق الخلاص من السجن، تتبخر العذوبة في كل مرة، لتحل محلها المرارات والغصص المتلاحقة، وتنقلب المواقع فتتحول الحرية إلى عقاب، وعذاب قائم، بينما يصير السجن طمأنينة هادئة وهادية. ولعله المعنى ذاته الذي سعى إلى تخليده نيكوس كازانتزاكيس في روايته الخالدة «الحرية أو الموت» حين جعل نضال الكريتيين ضد الأتراك، وتوقهم إلى التحرر لا يبرز في السياق الروائي إلا كانكسارات متلاحقة تسربلها الدماء، وكأنما الحرية ليست شيئا آخر إلا ذلك الجحيم المناقض لها، والذي يسكنها في العمق، ومرة أخرى يتخايل هذا المعنى بوضوح وبلاغة، ونعيش صدمة اللقاء مع الحرية في روايات أورهان باموق حين تخرج جواري السلطان من قصر طوب كابي بإسطنبول بعد انهيار الدولة العثمانية، ليجدن أنفسهن في العراء، دونما سيّد هاد، لا يدرين ما يفعلن، تنقصهم موهبة التصرف بفردية واستقلال، ودونما قيود أو أغلال. واضح إذن، عزيزي القارئ، أن فقدان القدرة على الانطلاق هو القيد الداخلي الذي يسكن المملوك، سواء كان عبدا حقيقيا أو مجازيا في الحياة أو في الكتابة، بل أن يكون الإنسان مملوكا في حيّز الكتابة المليء بالرمزيات، هو ألعن وأفدح، أي أن تكون تابعا للآخرين، تكتب تلبية لرغائبهم، وتعبيرا عن رؤاهم، وتبليغا لمقاصدهم، ومنافحا عن مآربهم، «هم»، وليست عنك «أنت». أي أن تكون -في المحصلة- دون كفاءة ولا موهبة، إلا موهبة الاستجابة والتنفيذ. لهذا أتفهم جيّدا ردود أفعال عدد كبير من الكتاب العرب تجاه أي خروج عن السرب، سواء سرب السلطة أو سرب الكتاب أنفسهم، وتوجسهم الدائم من العقاب، وكأن الحرية التي يكتبون عنها شيء يخصّ الغير، لا يمكن إلا أن يتعارض مع طمأنينتهم إلى الجماعة القائدة والمقيدة.