ليست هناك صورة هزت مشاعر العديدين مثل الصورة التي جمعت، في مقبرة الشهداء بالدارالبيضاء، قادة الحركة الاتحادية، حيث وقف نوبير الأموي إلى جانب الحبيب المالكي وأحاط بهما رفاق الحركة الاتحادية ورفاق الاشتراكي الموحد. يستطيع الشهداء أن يجمعونا في إطار واحد وابتسامة دالة. يستطيع الشهداء ما لا يستطيعه الواقع. وتلك الصورة بالذات أعادت الحنين إلى حيه، وأعادت المشهد إلى أصله. لكن الشهداء الذين ينامون اليوم في وسائد من غمام، ينظرون إلى اشتباكات الزمن الحاضر بغير قليل من القلق، وبغير قليل من الحسرة. لقد استطاعت السياسة في بلادنا أن تنتج خرابها بنفسها، ولعل ذلك من سماتها الثابتة، واستطاعت أن تمضغ نفسها وترمي بها في الحضيض، لا لشيء إلا لأن السياسة اهتزت صورتها تماما وأصبحنا في كرسي هزاز باستمرار. انظروا اليوم بأعين الشهداء إلى ما يجري فينا، ولنا. انظروا اليوم إلى اللااستقرار الذي ضرب أحزابنا ومنظماتنا وشبابنا ونساءنا وطفولتنا وجمعياتنا. هل يبدو شيء واحد متماسك اليوم؟ اللااستقرار هو الاستراتيجية العامة في تدبير الشأن العام والفضاء العام. اليوم علينا أن نسأل كيف نقيم ديمقراطية على كرسي هزاز، وكيف نبني التجديد في بيت مهدد بالانهيار، وكيف نبني الحداثة ونحن على مركب سكران؟ هل هناك استقرار مؤسساتي؟ يكاد يكون، لكنه شبيه باستقرار المقابر وبهدوء الانقاض وسلامة الآثار التاريخية. يكاد يكون هناك قانون هو عدم الاستقرار، لا في التوجه ولا في الهياكل ولا في الاختيارات. اللااستقرار اليوم قتل السياسة، ويقتل العمل التطوعي في الجمعيات وفي النقابات وفي الهياكل كلها، وما أصبح سائدا هو نوع من الشلل الموصوف في العلاقات وفي التوجهات، وليس لنا ضمانات اليوم بأن الاستقرار البنيوي يمكن أن يدوم، وأن الاجيال القادمة يمكنها أن تعول على ثماره وإعطائها الفرصة لكي تشتغل وتعمل وتكد في ظروف عادية ومنتجة. إن الجيل الحالي يعاني من آثار اللااستقرار الذي ضرب الأحزاب الوطنية، ولا يمكن سوى لمن يضع نفسه فوق كل اعتبار ألا يرى في ذلك تهديدا للديمقراطية وللحداثة وللفعل المسؤول. هل يمكن مثلا أن نقبل باللااستقرار في وظائف حساسة في الدولة، كما الأمن مثلا؟ بالطبع لا، لأن اللااستقرار عندما يتحول إلى استراتيجية لا يمكنه إلا أن يمس الدولة ذاتها، حتى ولو كانت تعتقد غير ذلك. إن الاستقرار لا يعني الجمود والتحنيط الإداري، بل يعني الحركة الهادفة والإيجابية والقادرة فعلا على تطوير الدولة والمجتمع، لنفكر في مثال الراكب على دراجة، كما كان شيراك يقول، فهو يتحرك، مستقرا ومستقر متحرك. أما أن تضرب الموجات الارتدادية الأحزاب والهياكل المدنية الأخرى، فذلك ليس له من معنى سوى التهييء والإعداد للحزب الواحد والفاعل، على أن تظل الأحزاب الأخرى مجرد أفلاك تابعة تدور في الفلك الأكبر. واليسار نفسه يجب أن يقطع مع تاريخ شتاته ، والحركة الاتحادية نفسها عليها أن تستخلص العبر من هذا التفتيت الشامل والمعمم بدواع مختلفة، ولكنها في المحصلة تؤدي إلى الضعف والهوان. وعندما يسود الإطارات المدنية الضعف والتآكل، فلا شيء يضمن قوة الديمقراطية، قوة الأحزاب نفسها. ومظاهر اللااستقرار لا تنحصر في وجه من الأوجه، بل هي متعددة، تمتد من الشلل إلى العجز عن الحركة إلى تعطيل الدورة المنتظمة للفعل إلى غير ذلك من المظاهر. وعندما نتكلم عن الدورة العادية للسياسة في بلادنا ودخول البلاد إلى منتظم المؤسسات والفعل الجماعي المحكوم بقواعد النتيجة وقواعد الفعالية وقواعد الأخلاق، يجب أن نفكر بعيدا عن اللااستقرار، ولا يمكن الادعاء بأن السلاسة السياسية التي يريدها المغرب ممكنة مع الزعزعة المتتالية للمؤسسات المدنية. اللعب لا يمكن أن يكون هواية سياسية لا للدولة ولا للأفراد، لأنه يكون صنوا للنار..