كشفت الفيضانات الأخيرة التي عرفتها العديد من المدن والمناطق بالمغرب عن سوء تدبير واضح للعديد من المصالح الحيوية التي تهم المواطنين هنا وهناك، وأيضاً لبعض القطاعات التي يرتبط تصريف أي مشروع تنموي بالشكل المطلوب بمدى نجاعة وفعالية تسييرها مثل قطاع الطرق والبنيات التحتية بشكل عام. وقد حدثت كارثة الإثنين والثلاثاء 29 و 30 نونبر التي ألحقت أضراراً فادحة بالعديد من المواطنين، وتسببت في إزهاق أرواح عزل أبرياء، وأصابت العديد من المصانع والمقاولات بخسائر ليست باليسيرة، مما أدى بالعديد من المواطنين إلى اتهام أداء وطريقة وأسلوب التدبير في إنتاج كارثة الفيضانات وليس الأمطار، وإعادة طرح مجدداً إشكال التدبير المحلي بالمغرب. فهل هو عود على بدء، أي أننا أمام تدبير يفتقد لكل معايير إنتاج الجودة والتطور والرقي؟ في الملف التالي، مقاربة لموضوع الفيضانات الأخيرة والتدبير المحلي، انطلاقاً من آراء وتجارب ودراسات مختلفة. ما وقع خلال يوم وليلة الاثنين والثلاثاء29 ،30نونبر 2010 بالعديد من المدن والمناطق بالمملكة يطرح ليس فقط سؤال التدبير والحكامة الجيدة بمدن ومناطق مختلفة ببلادنا. بل يطرح إشكالا مركزيا حول دور وفعالية كل المخططات وتصاميم التهيئة، وبرامج التأهيل المفترضة التي وضعت هنا و هناك؟ و يطرح بموازاة ذلك إشكالا آخر حول الاموال الطائلة التي صرفت على الدراسات التي انتجت المخططات والتصاميم و البرامج وكذا الاموال التي انفقت على مشاريع انجاز البنية التحتية في صورها المختلفة في هذه المدينة او تلك او هذه النقطة الجغرافية او تلك من خريطة المغرب!؟ من البديهي القول، بأن التفكير في أي تصور محتمل لتجاوز مختلف الاختلالات الفظيعة في تدبير الشأن المحلي التي كشفت عنها التساقطات الاخيرة يبدأ بالتشخيص المركز لأسباب الخلل، وطرح من ثم، ما الذي يجب القيام به لتجاوز كارثة شبيهة بكارثة الاثنين والثلاثاء الاسودين، او كارثة اسوأ من ذلك، اذا اخذنا بعين الاعتبار التحولات المناخية التي يعرفها العالم والتي تنعكس آثارها بصيغة او أخرى على المغرب. إن قراءة موضوعية في واقع الفيضانات. وتلاشي الطرق والازقة وسقوط العديد من الضحايا، وتشقق المباني هنا وهناك ودخول آلاف المواطنين في هوس التوجس من احتمال تكرار الكارثة وما قد ينجم عن ذلك من انعكاسات على هذه البناية أو تلك (ولعل خير شاهد يمكن الاستدلال به هنا، هو الحالة البليغة التي شاهدناها بأم أعيننا بحي السعادة بالحي المحمدي بالبيضاء، حيث غمرت المياه المنازل، ووصلت الى مستوى افزع السكان المنكوبين او المتضامنين معهم، وهو الأمر الذي جعل البعض يردد اللطيف ويدعو الله اللطف وتوقيف المطر درءا لعواقب استمرار تهاطلها، يخلص بنا الى القول بأن العديد من مدننا واقاليمنا في «سفينة مولانا» وان التدبير التي نسمع عنه، او نقرأ عنه في هذه الوثيقة او الخطاطة او ما الى ذلك، لا يمكن وصفه في احسن الاحوال إلا بالتدبير المختل الاهم من هذا وذاك، هو أنه منذ الستينات الى اليوم، مازال التدبير المحلي لا يندرج ضمن سياسة للمدينة مثلا واضحة المعالم، او استراتيجية عمل بعيدة المدى، تأخذ بعين الاعتبار في انتاج تدبير سليم او حكامة جيدة بالمدينة او الاقليم ،استراتيجية ترتكز عى برنامج محدد الاهداف في المكان والزمان، ولكي تبدو الصورة جلية لا مناص من استعراض بعض التجارب الدولية، من بينها مثلا مدينة باريس الفرنسية، فخلال فوز دولانوي بعمودية بلدية باريس، شرع في تنفيذ برنامج العمل الانتخابي الذي وعد به الناخبين، ومن بين اهم نقاطه الاستراتيجية احداث شاطئ على نهر السين الذي يعبر المدينة بهدف تمكين الفرنسيين الذين لا قدرة مادية لهم على السفر خارج باريس لقضاء عطلة الصيف ولا يمكن هؤلاء وأسرهم من الاصطياف بشاطئ باريس وفق شروط مناسبة، وبعد سنتين تقريبا من بداية عمل مهام المجلس الجديد، افتتح الشاطئ الجديد في وجه المواطنين حيث استقبل في مرحلته الأولى عشرات الآلاف من المصطافين. وهذا النوع من التدبير الذي تحكمه رؤى استراتيجية وطنية تشاركية بعيدة المدى ينسحب في المجمل على كل الملفات ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي، والتقافي وما الى ذلك. مدينة برشلونة لا تختلف هي الاخرى من حيث بعد النظر والتصور الاستراتيجي ذي النزعة الوطنية الصادقة التي تأخذ بعين الاعتبار حاضر ومستقبل المدينة ومختلف التحديات القائمة او المفترضة، فخلال زيارة للمدينة خلال سنة 2000 (الامر تغير الآن نحو الأفضل بشكل كبير) ولقائنا بإحدى القيمات على مركز دراسات البحر الابيض المتوسط ، يبين لنا أن الوضع يخضع بشكل صارم لمخطط هندسي دقيق يستلهم روحه وبعده الاستراتيجي من الاب الروحي لصناعة المدينة المهندس سردا، مبدع كلمة تعمير، كما أن لقاء آخر مع مستشار من حزب العمال الاسباني ببلدية برشلونة كشف لنا عن كيفية تدبير المدينة، أو بعبارة أخرى، كيف يتعاطى المجلس مع العديد من القضايا والملفات ،سواء تعلق الامر منها بالملفات ذات الصلة بالتدبير اليومي العادي، او بتدبير الملفات ذات البعد الاستراتيجي. ولعل من بين أهم القضايا التي أثارتنا من حيث أهميتها وضخامة مشروعها وقتئذ، مشروع تحويل مجرى واد ضخم كان يصب بميناء برشلونة بهدف تمكن مجلس المدينة من تنفيذ مشروعه الكبير المتمثل في توسعة ميناء برشلونة الذي كان يعتبر آنئذ ثاني ميناء لنقل البضائع في أوربا. هل تم، فعلا إعمال هذا المشروع الذي كان مبرمجا ضمن أهداف أخرى في أجندة المجلس؟ على غرار بلدية باريس، قامت بلدية برشلونة بتنفيذ ما التزمت به، وسعت وفق دفتر تحملات واضح وشفاف بتحويل مجرى الواد، وتوسعة مرافىء الميناء ليواكب التطورات ويواجه التحديات الآنية والمفترضة استقبالا... أكثر من هذا فإن المجلس قام في إطار هيكلة المدينة القديمة ببرشلونة بإيواد العديد من السكان بها الذين كانوا يقطنون بدور وصفت بالآيلة للسقوط، بالفنادق وبإقامات مؤقتة الى حين إعادة بناء العديد من المباني السكنية وفق مخطط معماري يراعى هوية المدينة، والحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لقاطنيها من مختلف الاجناس، وهو المشروع الذي يذكرنا بمشروع معماري هائل انخرطت فيه عمالة الفداء - درب السلطان سابقا، وهيأة المهندسين المعماريين بالبيضاء في شخص الاستاذ عز الدين نكموش، الذي كان يرأس الهيأة سابقا، والمختبر العمومي للدراسات وكان الهدف منه إعادة الهيكلة الحضرية لدرب السلطان، او وضع خطة تدبيرية جديدة في مجال البناء والتعمير، وهي الخطة التي كشف الواقع عن جدواها وفعاليتها، بيد أنها للأسف لم تجد الدعم اللازم، وهي مفعولها محصور في مجال ضيق جدا، والحال أن مثل هذه المشاريع كان من المفترض ان يتم تعميمها ليس فقط على مدينة الدارالبيضاء على مختلف المدن، لأن لها علاقة مباشرة بالتدبير الحضري السليم.. فما الذي يمكن استخلاصه من كل هذه الوقائع والمعطيات؟ وما أوجه تقاطعها او «تماهيها»؟ مع ما شهدته العديد من المدن والمناطق بالمغرب خلال يومي الإثنين والثلاثاء 29 و30 نونبر 2010 جراء تساقط الامطار، من فيضانات وما ترتب عنها من عواقب وتداعيات؟ إن أهم عنصر يمكن اسخلاصه من خلال مقارنة أساليب التدبير المحلية في بعض الدول، وبعض أساليب التدبير الوطنية التي «حوصرت» في المهد بسبب عوامل مختلفة، ونوعية التدبير في العديد من المدن والمناطق بالمغرب وهو ما كشفت عنه الفيضانات الاخيرة، هو أن التدبير الاول يقوم على أسس الحكامة الجيدة قولا وفعلا، في حين نجد «التدبير» في العديد من المدن ببلادنا لايرتكز على أسس مضبوطة وواضحة، وعلى تصور استراتيجي تحكمه المصلحة العامة أولا وأخير في بعدها الآني والمستقبلي، بل تدبير أقل ما يقال عنه حسب العديد ممن استطلعنا آراءهم في هذا الاطار، «تدبير العبث»، فمتي سيتم التفكير في تدبير محلي مغاير بمدننا وأقاليمنا لتجنب مختلف الكوارث المحتملة مثل كارثة الاثنين والثلاثاء التي خلفت اضرارا لوجستيكية كبيرة، وتركت قلقا عارما في أوساط السكان، والرأي العام الوطني؟