لم يكتب شيئا. أسبوع وهو يحاول أن يتم مقالته الشهرية. لم يسبق أن حدث له هذا منذ أن اشتغل بالمجلة منذ سبع سنوات تقريبا. دائما ينهيها، ويرسلها في اليومين الأولين لصدور العدد الأخير. يحتسي قهوته الساخنة. يقلب دفتر كتاباته، بحثا عن مسودة مقالة سابقة، تريحه من هذا الإرهاق غير المجدي. أسبوعان والحال لم يتغير. الوقت يمر، وثقته بقدرته على الخلق تتضاءل ويزداد الأمر استعصاء. كان يبدأ بالعنوان. عنوان مثير طبعا، ثم يبحث عن معنى لكلمات العنوان في عدة قواميس، عن كتابات سابقة، يربط ما وصل إليه، ويحاول إيجاد مدخل لكي يسرد رغيه الدائم، حتى أصبح يعرف متى عليه أن يضع النقطة ويعود إلى السطر من عدد الكلمات؟ متى يرسم علامة الاستفهام؟ أين يضيف صورة شعرة رهيفة؟ القلم توقف، والعناوين هجرته، ولم يتبق غير عشرة أيام. التفت إلى مكتبته المحيطة به، لم يضف لها كتابا منذ زمن بعيد. برقت الفكرة في رأسه وذهب ليرتاح. بلاجيا جماعية، متعددة الأصوات، صعبة الترصد، كم من الناس يقرؤون المجلة؟ وكم منهم ينتبه لمقالتي؟ وكم من هؤلاء سيتعرف على البلاجيا؟ ومن منا لم يستعملها ولو مرة واحدة؟ بدأ بالنقد كما كان يفعل أيام الثانوي، لكنه يبحث عن كتابة دون إحالات خارجية وتلميحات بعيدة، فلا وقت لإجراء اكتشافات جديدة. نظف مكتبه، وضع أمامه عشرة كتب أو أكثر وأحضر أوراقا ودفترا صغيرا. في الراديو مسرحية «الملك لير»، نافسته هي وإحدى مسرحيات «ابسن»، لما مثل معها فاوست وألحت عليه أن يرتدي ثوبا أسودا يتجاوز القدمين. كان « طاب يومك أيها الحزن» كتابها المفضل، أهدته «الغريب» و» أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة»، ثم ودعته بقبلة حارة وغادرت إلى بلد آخر. منذ ذلك الحين وهو يفضل «?المونت» على « كازانو?ا» ويتبع طريقة ترصده، رغم قلة خبرته العسكرية: سأهيئك لزوجك المستقبلي بما أفادني به « دولمنسي» بقياسات أقل اتساعا طبعا. إلا أن نساء ك « دو تور?يل» قليلات و» ?المونت» لا يمكن أن يوجد إلا في باريس. وللمدن حديث، كان يتبجح أنه لو ولد في سانت بترسبورغ للانت الكلمات والشخوص، فسحر شارع نيفسكي مختلف عن لغط حي السلام. تناول ساندويشين، وانبرى لعمله المضني بتفان كبير، يقلب الصفحات، يقفز على الكلمات، وينقل عبارات مقالته في أوراق، ويدون في الدفتر مقتطفات، قد تخدمه في جولاته النسائية: « روستند» قرب « ساد». مر الوقت بسرعة، يغلق كتابا ليفتح الآخر، وعيناه متوهجتان في الضوء الخافت الذي يبعثه مصباح المكتب. ورق الجرائد الذي لفت فيه الساندويتشات، وقنينات فارغة ملأت المكان. استعصى عليه النقل وسط هذه الزحمة، واحتاج إلى فراغ غريب معه كسل متعال. خرج وعاد بفتاة. ترك النقود عند المدخل وأشار إلى اللانظام، ودخل لينام. سخرية قد جعلتها أكثر سخرية، مقالة زميلة له عن رواية جديدة ل «غارسيا ماركيز» عن شيخ... مع فرق في السن. تناص بين عالمين. وجد الأوراق مرتبة بشكل مغاير. أعاد قراءة الملاحظات، ولم يستطع إعادة ترتيبها فتركها على حالها. كان يود أن يؤجل الكتابة إلى الليل، لكن إعادة الكتابة لا تتطلب طقوسا معينة. بداياته الأولى كانت مع « موبسان». وكل مرة يقرأ فيها إحدى قصصه، إلا وتحتل غصة مؤلمة حلقه. كان ذلك في الجامعة. حاول أن يقلد أسلوبه الذي كان يبدو في المتناول. وكان جواب الدكتور صادما: لم تكتب غير سباغيتي وسباغيتي مغاربية رديئة المستوى. كان لا بد أن يعود إلى دروس قديمة، فهو يجد صعوبة في الحفاظ على نفس الضمائر والأزمنة، مع جهل كبير في وضع علامات الترقيم، رغم أن أستاذة اللغة الفرنسية أسبوعان وهي توضح الفرق بين النقطة والنقطة الفاصلة. أعارته مرة « بوفار وبيكوشي». كانت دائما تقول: الكتاب يموتون صغارا، لا يشيخون، أو يقتلون أنفسهم. مدية «راسكولنيكوف» تحن إلى تقبيل رقابهم. طلبت منهم ملفا عن المنتحرين. اختار « الهاراكيري»، يستدعي شرحا وتفصيلا أكثر. وكلما زادت الأوراق زادت نقطه. نفذ الحبر، رماه وأسقط معه كوب ماء. بلل أحد الكتب، ابتسم وفتحه: « كافكا» وسؤال أحد الامتحانات: ماذا كنتم ستختارون؟ طبعا الثعبان الذي ذهب إلى البادية ليلسعه، ويدقق في تفاصيل «سانجير» القرن الماضي. لم يغادر المنزل منذ أول أمس. وجد فرحا في إتعاب بصره، والقراءة الخاطفة. توقف عند إحالة عن « ايكو». استغرب واسترخص كثيرا لسعة الثعبان. بحث في الأوراق. أين؟ «كورتزار» : قراءة «ايكو» أصبحت موضة. لم ينم إلى أن أتم قصاصات جرائد «مانويل». اليوم آخر الشهر. عليه أن يقدم النص. الأوراق امتلأت بالشذرات. لكن لهفه اللامحدود يزداد مع كل صفحة. جرس الباب يقطع عليه قراءته ل» تشيخوف». مؤكد أنه أحد مستخدمي المجلة. رمى له رسالة من تحت الباب. لم يفتحها، أحرقها ومعها الأوراق فلم تكن غير سباغيتي. أحس بارتياح كبير. أخذ دفتره الصغير و « قصص خيالية»، وولج غرفة نومه.