منذ مجموعته القصصية الإشكالية الأولى: «العنف في الدماغ» يواصل الكاتب المغربي أحمد المديني رحلته الإبداعية، في تواز مع عمله الأكاديمي، ومع ما يُعرف عنه من متابعة للندوات الثقافية والمؤتمرات الأدبية أنىّ انعقدت وفي أيّ بلد عربي أو أجنبي، يخوضها محاوراً ومشاكساً. المديني ذو الحضور الإبداعي المميّز في المغرب، اتسم مشروعه السردي بالوعي، حيث التجريب ليس مجرد انتقال من شكل إلى آخر، بل في صلب مشروعه الإبداعي. بين أيدينا هدية المديني لنا، مجموعة إصدارات له وعنه (دراسة، ترجمة، حوار معه) نتاجات إبداعية كانت سبباً لحوار معه في زيارته الأخيرة إلى بيروت: أنت مواظب على زيارة لبنان سنوياً، حتى في أكثر أوقاته الأمنية حرجاً، كما معروفة عنك أسفارك الدائمة، أمّا إقامتك فهي موزّعة بين باريس والمغرب. ما علاقتك بالسفر، بالمدن، وأيها أحبّ إليك؟ بدأت السفر مبكرا في حياتي، إذ انتقلت من مدينتي الأصلية الدارالبيضاء لأدرس في فاس البعيدة عنها. وبعد تخرجي الجامعي الأول بقليل انتقلت إلى الجزائر، لأعود إلى المغرب ويبدأ تجوالي في العالم، الذي لم ينته. سنة 1980 وصلت إلى باريس بصفة «رسمية» لإعداد أطروحتي، واكتشفت تدريجيا أنني أقيم، وأحول هذه المدينة إلى مطار، ووطن، أنطلق منه وأعود إليه. قيل (الإمام علي رضي الله عنه) إن السفر قطعة من العذاب، وأنا أضيف إنه العذاب الجميل والضروري، لأنه جوهر الحياة وصنوها، رديف الاكتشاف والمعرفة، ونقيض السكون والاستقرار المميت، على الأقل في فترة العمر الجامح. ثم إن العمر كله رحلة، من المهد إلى اللحد. على مستوى الكتابة اكتسبت أكثر من تجربة بالسفر، في كل القارات فعلا، دونتها في نصوص أعتز بها، منها كتابي: «أيام برازيلية، ولبنانية من يباب» (المركز الثقافي العربي 2008) ورحلتي العام الماضي إلى الحج في عنوان جديد: «الرحلة إلى بلاد الله». أعتبر كتابة الرحلة من أهم أنواع الأدب، ولننظر ما أقواها نصوص نايبول. السفر والعيش أغلبه في المدن، التمدن والمدنية جاءا من المدينة، لا من الريف. المدينة فضاء العيش الحديث، هنا تنتج الثقافة والفن، ويتم تدبير العالم، ومنها أيضا مختبرات صناعة الجنون، وفيضان المخيلة، لذا خرجت الرواية من رحمها وبناسها وأدواتها تكتب. كل مدن الرواية مأواي، إن كانت متقنة، حارة إنسانيا، ومركبة دراميا. شغفت ببيروت باكرا، وهي أحد مهاوي قلبي، (أي سرّ فيك؟!) معها بغداد (سابقا، طبعا) القاهرة (التي كانت) والدارالبيضاء (التي رحلت)، ومن حسن الحظ تبقى باريس ذكرى قديمة تستعاد كلما تخضبت الأغصان بلون الخريف، حتى إني لأتساءل بإلحاح ماذا العالم بدون ما تمنحه من جمال في الرؤية، وخبل في الرؤيا، ونوستالجيا دائمة. متابعتك معروفة، لأحوال الرواية والروائيين، والشعر والشعراء من الأسماء المعروفة. هل تتابع ما يكتبه الجيل الجديد في العالم العربي على هذين الصعيدين. من يلفتك منهم ومن امتلك برأيك جملته الخاصة سواء في المغرب العربي أو في مشرقه؟ بكل تأكيد، أتابع قدر المستطاع، من الوقت والأهمية، والشغف إذا أتيح، والحق قلّ أن يتاح. هناك أولا إشكال تسمية ما نعنيه بالجيل الجديد؛ هل هو (كتاب 39) كما سمته جهة معينة في بيروت؟ أم الأصح جيل يكتب مختلفا عن سابق، ويجدد، لنقل على طريقته، وقد تعرّف بما يكفي على تجارب سابقة، ويقتنع أنه يمكن أن يكبر بها وعلى تراكمها، ويذهب بتراثها أبعد، وله بعد ذلك أن يقتل جميع آباء العالم (!)؟. تحتاج التجارب المسماة جديدة إلى كثير من قلة الخفة والبعد عن التنطع، اللذين يهلكان أصحابهما وهم في مستهل الطريق. الأدب مسير مسافات طويلة، وأيّ نفَس! أكتب عن ما أقتنع به، وأنا واحد من قلة يفعلون، بحكم مزاوجتي بين النص الأدبي والنقد. أكتب عن الواعد والمغامر بجد، لأني بدأت بهذه الطينة وأقف دائما إلى جانب المغردين خارج السرب، شرط أن يتقنوا الشدو والتحليق معا. وهذا أضحى نادرا جدا، لأن الإبداع نادر دوما. إن نصوصهم في الغالب تتشابه، كأنها مستنسخة في الشعر والقصة، ومشكلتها في ظني رغبة متعسفة لقطع حبل السرة مع ما سبق، قبل توفر العدة، ومنها شروط تحدث عنها في كلاسيكياتنا ضياء الدين ابن الأثير، زيادة عن نزعة للاصطفاف في مدارس وتيارات، بينما الأدب يحتاج أولا أن يوجد ثم يصنف، وليس أن يتداعى أصحابه إلى الابتئاس ورثاء سوء الحال والمآل، قبل أي تجربة مستحقة. بينا من حسن حظ أدبنا أن هناك من فهم هذا المطلب، وعليه المعول، وهو يمشي بتؤدة، وموهبة متعلمة، وبدون تبجح، نحو كتابة النصوص الفريدة. هؤلاء قلة كنصوصهم، وهو طبيعي جدا، وتجنبا لإثارة الحساسية بينهم أتحفظ على ذكر الأسماء: مغربا ومشرقا. تتعدّد الأجناس الكتابية التي يخوضها قلمك، فتتضمن هذه الرواية والشعر والقصة القصيرة والنقد. لن أسألك أيها أقرب إليك، أسألك في أيّ من هذه الصنوف الأدبية تقرأ أكثر؟ لم ولا توجد عندي حدود في القراءة بين الأجناس الأدبية والمعارف الثقافية، المساندة لها خاصة. إنني أنتمي إلى جيل حين التحق بكلية الآداب في الجامعة المغربية الفتية، منتصف الستينيات، قدمت له جميع «الأطباق» دفعة واحدة، منها الأدب الحديث شحيحا وبلا نكهة تقريبا، ما قوّى رغبتي في استكمال النقص، بتجاوب مع ميلي للإقبال على كل جديد. عمليا اكتشفنا هذه المادة وحدنا، وتغذينا من ضروعها بمفردنا واجدين فيها، كل حسب ميله، لذة لا تضاهى، وشهية منفتحة على التعبير، وأفقا واسعا للحياة والشعور. إنما لا بد من التنويه بأن القراءة الكلاسيكية، التي يُستخف بها هذه الأيام، كانت عمدتنا للحديث، وسبيلنا إليه. وإنها مناسبة تواتيني لأظهر أسفي عن كثير مما فاتني قراءته من الأمهات في كل الفنون. والآن، وبعد أن نلت وطري مما لا حصر له من النصوص، واطلعت على ما سمح به الوقت والاستعداد، وأضحت الدراسة والرسائل الجامعية خلفي، وبعض رصيدي، يتاح لي أن أعود لأعكف على تجديد الصلة بالمتون المؤسسة، رواية وشعرا ونقدا. إن شغفي قوي برواية القرن التاسع عشر، بالشعر المؤصل عربيِّه وغربيِّه، وكلما ازددت إيغالا في هذه الاستعادة زدت فهما وحذرا، وقلقا إزاء الكتابة، واندهاشا بالطريق الشاق والطويل الذي قطعه المفكرون والمبدعون لإنجاز الحداثات الكبرى، وإن كان هذا، إذا توفرت الموهبة، يملأ بالثقة ويشحذ الدربة. على أرضية صلبة أريد أن أقف، فأقبل على القراءة بنهم، لا أقول لكل ما يصدر، بأكثر من لغة، ولكن متخيرا، مدققا، مغربلا، بمبالغة أحيانا، ولا تدهشني الأسماء بتاتا بل النصوص المفردة، تجدينها في كل الآداب، وحذار من الوقوع في مصيدة الترويج. أتحاشى ما يثور حوله الضجيج ويصبح مثار تسويق، بطرق شتى، ثم سرعان ما تتكشف ضحالته؛ هل تريدين أمثلة من روايات وشعر زماننا، العربي، والغربي نفسه، إن شئت، أووف، يقول الفقهاء بأن كشف الواضحات من المفضحات!. أختم هنا قائلا بأن القراءة بالنسبة إلي اختصاص لا ترف، أو تسلية، هي شغل، مثل الكتابة تحتاج إلى الاحتراف والجدية الكاملة، وهما معا حقل عمل يتطلبان المسؤولية والمثابرة، إنهما صناعة العمر كله، فهل ثمة مجال حقا للتخيُّر أو الاستسهال؟ كلا، بتاتا. أنت مشغوف بالحوارات. هل ما زلت تؤمن بجدواها في ظل عدم التواصل وعدم الإصغاء التام إلى الرأي الآخر، وانعدام الحوار لجهة انفلاش «الأنا» عند بعض المثقفين، والكتابة بوحي هذا الانفلاش والتضخم وعدم الاعتراف بالآخر؟ إن كنت تقصدين الحوار الذي تنخرط فيه وسائل الإعلام، فثقي أني أتحاشاها ما وسعني الأمر. اللهم أن أجد محاورا مثقفا، وبعيدا عن السجال والتعميم، قصده التحقق من معرفة لا من ذات، وتطوير النظر في قضية، في لغة، وفنية، مفهومية، واستكناه تجربة ورسم معالمها عبر مسار خصوصي.. ومن دون إطالة، فإن للحوار شروطا أقلها أنها، وهي بالتأكيد تستبطن ذاتا معينة، بالأحرى هوية شخصية، تتعداها إلى مشتغلها، وتسائل شؤونها وشجونها، وكونها تتم بين طرفين، عليهما أن يكونا منتجين لمعرفة أو خبرة ما، وإلا فهو لغو ومجرد «طقّ حنك» كما تقولون هنا، وكذلك قلة احترام للمتلقي الذي يقرأ، وإليه يوجه الكلام أو يستعرض البعض عضلاته ونرجسياته. أعرف أن الإعلام مصيدة، وهناك من يطارد الأضواء ليلمع بها لافتقاره إلى ضوئه الخاص، أو لنفاد بطاريته. هناك حتى من يبيع ويشتري في هذه السوق، لأنها سوق، تطري الكاتب والكتاب لحساب معين. لا أحد يتحدث بالأنا وفي الكتابة حتى وهو ينوع الضمائر، ويتحربأ وراء الشخصيات، أو يتبرج بها وهو صغير إلا الصغار، اما الكبار، المجربون، الناضجون، الراسخون في العلم، فأناهم جمعٌ لا مفرد، وذاتُهم كلٌّ وهي واحد، والآخرون هم من يخرج من صوتهم بأصوات ولغات ودلالات وخضم مشاعر. والكتابة أقوى جسر ممتد للحوار بين البشرية، لأن عمدتها فك العزلة، وتكليم الصمت وخلق التواصل بين موقفين وأكثر من لغة وتجربة، ذا بعض ما يحقق عالمية الأدب وإنسانيته، وإلا فلا كتابة، والباقي تهريج، ومن أسف أن كما هائلا مما يسمى أدبا وحوارا حوله أقرب إلى جعجعة، لذا لنتمسك بالصحيح فهو الأبقى وسواه غُثاء السيل! ما هي المعايير التي تحكم مقارباتك النقدية للنصوص الأدبية على تنوعها، وهل تتدخل ذائقتك الشخصية في نقدك؟ إلى أيّ مدى؟ وهل معرفتك بالثقافة الغربية يعد معياراً معرفياً أساسياً في الحكم على نتاج عربي؟ أفضل الحديث عن سجلات قراءة، نستخدمها في هذا المستوى أو ذاك لدى قراءتنا للنص، وقابليته للانضواء داخلها، والتجاوب مع سُننها وأدواتها. أما المعايير فهي بدئية، وشرطية أيضا. فالأدب، ككل صناعة، متطلب في لغته وقواعده وأسلوبه، وله نظام ونسق، وتنوع في الشكل والأداء. هذه ومثلها لا يمكن القفز فوقها أو التساهل. نريد دائما لغة جميلة، تؤدي وتفصح وتشعر وتفسح الخيال. في الرواية، مثلا، أن تصف وتشخص وتعيّن، حاملة لغزها، تميس في ظلال معناها وإيحاءاتها، وبينما هي لغة الجميع تصنع أسلوب صاحبها. وما كان الجفاف والتقعر والركاكة والإدقاع والنثرية المبتذلة يوما أسلوبا. سجلات القراءة تتكون من مكونات، منها:1 خلاصة تراث النظرية الأدبية وتطبيقاتها، حسب مدارس مختلفة، وهذه يتمثلها الناقد معرفة وتسويغا، لا قانونا. 2 مجمل ما ترسب في الذهن من قراءات لتراث المتن الأدبي (لنقل الرواية، مثلا) وتحول عنده إلى عوالم وأبنية ومقاربات وأنساق. 3 الكيفية التي بها يتخلق العمل الأدبي. 4 رؤية العمل ومساراته ومعماره. 5 ما الصورة فالأدب هو الصورة الخصوصية التي يقدمها العمل عن نفسه، مجاورا لنصوص عائلته، أو متخطيا أو أقلّ. 6 الخبرة المحمولة في العمل، ضمنها تجربة الكاتب وعالمه المرصود، حواسّ ودلالات. وما الذائقة الشخصية إلا جَماع هذه المكونات، إذ الذوق يتكون، وليس فطريا كما نحسب. وحين نقول إن الأدب ينبغي أن يكون مستساغا ويحقق المتعة (وظيفة الضحك، مثلا) فمعناه أن يكون جميلا، والجمالية نظام، مثل الشروق والغروب، وتشكل قوس قزح، الخ. أما الثقافة الغربية، في مقاربة الأدب أو غيره، فهي ليست معيارا بقدر ما هي معرفة حاسمة، أوليست هي المعرفة والمنهجية والمناهج الحديثة، في نشأتها وامتدادات تطورها، أولسنا نعمل منذ عقود لاجتراح الحداثات الممكنة، في العيش والتقدم والإبداع وتحقيق العدالة والديموقراطية لمجتمعاتنا. عموما، فالكاتب والناقد، معا، يعملان اليوم، كما بالأمس، في خضم تفاعل وتلاقح ثقافات ولغات ومنهجيات وأذواق، ولا عذر لأحد في العزلة وقصور المعرفة، كما لا قطرية في الثقافة، مثلما لا عالمية من دون امتصاص روح الإنسان في تربته وثقافته ونسغه الأول، الذي لا ولن يبقى واحدا ولا هو هو.