ما من شك أن موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء (الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»- القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه».. «إقرأ». هل هذا الخطاب (الفعل الجبريلي) موجه إلى الرسول وموقوف عليه، أم أنه خطاب متجدد ومباشر يعني جميع المتلقين؟ يعتبر المفكر التونسي يوسف صديق أن فعل الأمر الإلهي: «إقرأ» الذي أبلغه جبريل (على افتراض أن الملاك يجهل «أمية» النبي) ثلاث مرات إلى محمد، ورد عليه ب«ما أنا بقارئ» تعرض لابتلاع معرفي من طرف خطاب إسلامي تقليدي رجعي ادعى تصحيح كل شفرات القراءة النبوية للقرآن، وهي القراءة التي تنبني، لقياس إيمان المؤمن، على القبول بأن القرآن كلام الله المنزل، مثله مثل «الحديث القدسي»، الذي أصبح بعد قرنين من وفاة النبي، كلاما إلاهيا مضاعفا مضمنا في السنة، أي مجموع أقوال وسيرة الرسول. وإذا صدقنا السنة- يقول يوسف صديق- فإن أي قراءة للوحي لا تستند إلى الخطاب التقليدي تصبح كفرا. ومعنى ذلك أن القراءة الصحيحة والنهائية قد تمت ولا سبيل إلى إعادة قراءة الوحي إلا استنادا على ما قيل وما قام به الشراح والمفسرون السابقون، علما أن هؤلاء يخضعون لمنطق السياق السياسي الذي يوجدون فيه ويعملون داخله. لقد قال بعض المفسرين بأن «ما» التي وردت في جواب النبي (ما أنا بقارئ) لم تأت في معنى الإنكار والنفي (أي أنا لست بقارئ، أنا لا أقرأ)، بل جاءت بمعنى الاستفهام، كقولك:» «ما أنا بقارئ؟»» بمعنى: ما المطلوب مني قراءته؟ ما المطلوب مني «تبليغه»؟، و»ما المطلوب مني الدعوة إليه أو به؟ فيكون الجواب متناسقاً: اقرأ، أي بلِّغ وأصدع وانشر وادعُ بسم ربك. بينما رأى البعض الآخر في «ما» أداة نفي، ودالة على «أمية» النبي، ويستدلون على ذلك بقولهم: «لو كان محمدا يكتب ويقرأ لارتاب الذين في قلبهم مرض، ولو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصَّل هذه العلوم من تلك المطالعة. فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة؛ كان ذلك من المعجزات». وهناك فريق ثالث يرى أن السر الأكبر في أمية النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية الخط وقراءة المخطوط هي أن أساس الكلام الإنساني هو الأصوات وليس الخطوط، أي أن اللغة بالنسبة للنبي كانت، لساناً وأذناً، «كلام وسمع». لأن أي قوم إذا غيروا أبجديتهم فلا يتأثرون أبداً في كلامهم بين بعضهم وفهمهم للغتهم بل يتأثرون بقراءة المخطوط. علماً بأن الكتاب جاء إلى النبي وحياً، أي جاءه بصيغة صوتية غير مخطوطة وسماه الكتاب»، بينما هناك فريق رابع ومنهم الجابري الذيذهب إلى أن المعنى الذي أعطي لكلمة «الأمي» من أنه من يقرأ ولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقع تاريخي صحيح. فهو لفظ لم يستعمله العرب في جاهليتهم، بل هو مأخوذ عن اليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ «الأمم» و»الأميين» وعليه فإن «الأمي» مأخوذ من «الأمة» وليس من «الأم». كما أن كثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمام الرسول بها. ولا يرى يوسف صديق في جواب الرسول (ما أنا بقارئ)، الذي تكرر ثلاث مرات، إلا إرساء للعلاقة بين الوحي الإلهي والرسول، أي التمييز بين فعل التبليغ وبين فعل القراءة، أي فك شفرة معادلة تتجاوزه وتتجاوز إمكاناته. لقد أدرك الرسول- يقول صديق- أنه باختياره أن يكون مجرد مبلغ سيتخلى عن تفسير الكلام الذي يتوجب عليه تبليغه فحسب. هذا ما تشير إليه رهبة النبي أمام قعل «إقرأ»، وهذا يحمل معنى عميقا وهو أن هذا الأمر لم يوجه إلى إليه كفرد، وإنما وجه للجميع، أي لمن سيأتي بعده ولمن أتى قبله. إن طموح يوسف صديق- كما أعلن عن ذلك في مقدمة كتابه- هو وضع هذا النص المترابط، الذي رفض المبلغ (الرسول) أن يلتزم بقراءته (تفسيره وفك شفراته) ويلزم الآخرين بالخضوع لقراءة مؤرخة (محددة في الزمان)، في موضع تساؤل، أي أنه يطمح إلى إعادة النظر في مجموع الدراسات القرآنية ومساءلة مجموع «الوثائق»، وذلك بطرح الأسئلة التي تجنبها المفسرون القدامى والمحدثون أو أهملوها مرغمين، اعتقادا منه أن وراء المظاهر الخادعة لكل هذا الإنجاز القرائي أو التأريخي حقيقة مؤسسة. ويعتبر أن المادة الخام لهذا العمل هي القرآن، ولا شيء غيره، رغم كثافة الضجيج الذي يحيط به منذ 15 قرنا، أي أنه يضع نفسه وجها لوجه أمام القرآن، عكس الجابري الذي تناول الظاهرة القرآنية التي ليس المقصود بها القرآن فقط، كما يتحدث عن نفسه، في الآيات، بل يدرج فيها أيضاً، مختلف الموضوعات التي تطرق إليها المسلمون، وأنواع الفهم والتصورات «العالمة» التي شيدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده.