كلما حل شهر ابريل من كل سنة، وقطار المغرب العربي يجمد في ركن قصي فوق قضبان سكة مهملة، إلا و تذكر الوحدويون المغاربيون تلك الايام المجيدة التي انقسم فيها شمل زعماء حركات التحرر الوطني لبلدان المغرب العربي في مدينة طنجة سنة 1957 وفي ذهنهم التخطيط لمستقبل جماعي مشترك. الفضاء المغاربي الذي راود زعماء حركة التحرر الوطني المغاربية، حلم توحيد مكونات يمثل احصائيا 40% من سكان العالم العربي. وما يقرب من نصف مساحته الجغرافية. ثم انه فضاء متعدد الموارد، متنوع المؤهلات، وفي موقع استراتيجي بين قارات المعمور، لا ينقصه شيء من خيرات الله التي انعم بها على عباده في البر والبحر. وكلما تحسرت القلوب على هذه العطالة التي تصيب هذه الجهة من افريقيا والعالم العربي منذ مدة طويلة، إلا واستتبع شعور الحسرة سؤال المسؤولية: من المسؤول عن هذه العطالة؟ من المسؤول عن جعل واحدة من الجهات الدولية التي عرفت منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي انطلاق التفكير والتخطيط لمشروع اندماج اقليمي رائد، في نفس الوقت تقريبا الذي انطلق فيه البناء الوحدودي الاوروبي مع مؤتمر روما لسنة 1957 .من المسؤول عن جعل هذه الجهة تتخلف و تتعثر الى هذا الحد، وتعطي عن واقعها الراهن صورة بئيسة مقارنة مع جهات دولية اخرى في شرق افريقيا وفي امريكا اللاتينية، وحتى في افريقيا الغربية، التي تمكنت فيها منظمة كالاتحاد الاقتصادي لبلدان افريقيا الغربية ecowas (16 دولة) من ان تفرض نوعا من الحضور والاحترام الدولي، وأن تمارس بفعالية واسترسال مهاما حاسمة في التقريب بين مصالح قطرية ومعالجة معضلات حدودية مزمنة. من المسؤول؟ شعوب المغرب العربي، في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا غير مسؤولة عن هذه العطاءة التي اصابت المشروع الوحدوي، ومن الحقائق المؤكدة ان تكاليف استمرار هذه العطالة باهظة بمقياس ما ينتظر أن يترتب عن مسلسل الاندماج لو تم، من فوائد بالنسبة للجميع. وضمن هذه الشعوب فإن الفاعلين الاقتصاديين والمقاولين ورجال الاعمال غير مسؤولين اطلاقا عن هذه العطالة، اذ من المحقق أن انعكاسات استمرار جمود المشروع المغاربي على مصالح هذه الفئات في كل الاقطار المغاربية دون استثناء هي انعكاسات سلبية تبرزها مختلف الدراسات والسيناريوهات الاستباقية التي يضعها الخبراء، سواء منهم المغاربيون او الاوروبيون المشتغلون في مؤسسات الاتحاد الاوروبي. لنلتفت اذن جهة الحكومات، وحينما نولي اهتمامنا بهذا الاتجاه، حاملين معنا سؤال المسؤولية، ونتابع الوقائع على الارض، ونستفتي عقولنا ثم قلوبنا على ضوء تلك الوقائع،فإن عناصر الاجابة تتجمع بتلقائية كما تتجمع أدلة الاتهام واحدة تلو الاخرى في ملف فضائي، ذلك انه رغم الملابسات والملاسنات الظرفية، فإن الوقائع المتراكمة منذ سنة 1965 لا تنطق حقا بما يوحي بوجود مسؤولية مباشرة وجسيمة للحكومات المغربية والتونسية والموريتانية والليبية في انسداد كل افق امام العمل الوحدودي والبناء الاندماجي، وإذن، وبالواضح لا بالمرموز، وبالتدقيق لا بالتعميم، فإنها مسؤولية الحكومة الجزائرية، وعلى امتداد زمني طويل كما سنرى. وللتوضيح، ورفعا لكل لبس، فإن حديث المسؤولية على المستوى الحكومي، بالمنطوق الذي نقصده هنا، يتجاوز اشكالية ما قد يكون لهذا الظرف او ذاك او حتى للمجموعة كلها من اخطاء او من مظاهر تقصير او خلل في تحديد مصطلحات الاندماج مثلا، او في ضبط وتيرة العمل او في تسطير الاولويات، فتلك قضايا فنية (كما يقال في لغة المنظمات الدولية) قد تمر منها كل التجمعات الاقليمية، وهي قابلة للتصحيح والمراجعة، بالتفاوض والحوار، حينما تكون الاساسيات، أي الشروط البنيوية متوفرة. إن حديث المسؤولية، بالشكل الذي نطرحه هنا يحيل على المواقف الاساسية للاطراف، والتي يتوقف عليها، عند المنطلق، أما تحريك قطار العمل الوحدوي، حتى مع ضبط سرعته في حدود قد لا تستجيب بالكامل لطموحات الركاب . واما تجميده نهائيا فوق قضبان سكة مهملة ووضع علامات للوقوف وبالأحمر، وبرعايتها ودعمها للكيان يعتبر مجرد التفكير في خلقه نفيا للمشروع الوحدوي من الاساس، فإن الحكومة الجزائرية لاتفعل شيئا آخر غير وضع ألواح قف امام قطار المغرب العربي، بعناد ونرفزة كبيرين. حينما نحسم في الجواب حول المسؤوليات في وضعية العطالة والجمود التي يعرفها اتحاد المغرب العربي، فإن عددا من التساؤلات المحيرة تبدأ في الظهور، ومن قلب منطقة الجواب ذاتها، ذلك ان كل الشبكات التحليلية التي تمت الاستعانة بها في قراءة السلوك الرسمي الجزائري، في علاقته بالمغرب، والتبعية بإشكالية البناء المغاربي، تبدو اليوم متجاوزة بتجاوز الظروف الدولية التي انتجتها، ولكن السلوك المذكور يظل قائما يراوح مكانه يدعو الملاحظين والمهتمين الى البحث عن شبكات قراءة وتحليل أخرى علها تنفع وتفيد. وتفصيل ذلك كما يلي: - بعد الاطاحة بالرئيس بنبلة وإلى حدود سنة 1989، تاريخ التوقيع على معاهدة مراكش لاتحاد المغرب العربي كان يقال ان مواقف الحكومة الجزائرية تجاه المغرب هي نتاج الموقع الايديولوجي الذي اختارته الحكومة للبلد، كجزء، بالامتداد البعيد للمعسكر الشرقي، شاءت ظروف المكان ان يكون جارا لبلد آخر، هو المغرب، جرى تصنيفه آنذاك ضمن الامتداد القريب للمعسكر الغربي ، وكان ذلك مفهوما او شبه مفهوم في ذلك الزمان. وخلال نفس الفترة، وانطلاقا من نفس شبكة القراءة والتحليل ، كان يقال في عدد من الاوساط الاستراتيجية المنتسبة للشأن الجزائري، ان الموقف من المغرب، هو من مستتبعات اختيار الحكومة الجزائرية للتصنيع الثقيل (المعضد بالفوائض المالية) ذلك أن هذا الاختيار، من طرف الحكومة الجزائرية، يجعلها تحمل تصورا عن موقع البلد كقوة اقليمية في منطقة المغرب العربي، وهي بهذه الصفة لايمكنها ان ترضى او تقبل بمنافس او شريك في هذا الدور، وكان ذلك أصل المشكل ضمن شبكة القراءة هاته. ثم جاءت سنة 1989، ومعها نهاية الحرب الباردة، تغيرت أحوال الدنيا وأصبح الحلفاء الصغار للمعسكر الشرقي القديم مدعوون للتأقلم والبحث عن صيغ تعايش مع مستجدات العالم الجديد، انتهى بريق التصنيع الثقيل كمدخل للقوة الاقليمية بانتهاء النماذج التنموية التي لفته في السابق، تحرك قطار المغرب العربي عن جديد وسط آمال عريضة لبضع سنوات، ثم جاء اغتيال بوضياف لترجع عقارب الساعة مجددا الى الوراء وتتحرك من جديد لدى الحكومة الجزائرية عقدة العداء تجاه المغرب، وتتعطل معها الوحدة المغاربية، ويطرح السؤال مرة أخرى عريضا: ماذا وراء سلوك الحكومة الجزائرية وأية شبكة قراءة قد تسعف في الفهم والتفسير؟ عاشت الجزائر في أعقاب تعليق الانتخابات ظروفا صعبة كانت من أقصى وأصعب الظروف بالنسبة للشعب الجزائري الشقيق، عنف واقتتال حصدا على مدى سنوات طويلة عشرات الآلات من الارواح فيما يشبه الحرب الاهلية، وقيل وقتها في تفسير استمرار الوقف الجزائري على حاله بخصوص وحدة المغرب الترابية، ان الحكومة الجزائرية والمؤسسة العسكرية تجعلان من هذا الموقف وسيلة للبحث عن تماسك داخلي على خلفية محاولة إيهام الرأي العام بوجود خصم خارجي يتربص بما يستدعى تجميع كل المشاعر ضده، ثم جاءت فترة اليسر بعد مرحلة العسر، جاءت فترة التهدئة والوئام النسبي وتولى المسؤولية الرئاسية في البلاد رجل عاش فترة شبابه بمدينة وجدة المغربية، استعاد الشعب الجزائري الشقيق سلما مدنيا كان قد افتقده لسنوات، وبقي موقف الحكومة الجزائرية إزاء المغرب يراوح مكانه، بل إن موقف المعاكسة ازداد ضراوة والرغبة في رعاية الكيان المصطنع أضحت أكثر راديكالية من السابق، وكانت تبعات ذلك على مسلسل البناء المغاربي كارثية بكل المقاييس. ومرة أخرى فإن شبكة التحليل والقراءة التي ربطت بين الموقف من المغرب من طرف الحكومة الجزائرية وظروف الأزمة الداخلية التي تدفع الى محاولة صناعة الخصم وتكريس ذلك في النفوس، ان شبكة القراءة هاته بدت متجاوزة وبعيدة عن الوفاء بالمطلوب على مستوى التفسير. كيف نفسر هذه الاستمرارية الغريبة في الموقف الجزائري بكل انعكاساتها على واقع وآفاق اتحاد المغرب العربي؟ كيف نفسر هذه الاستمرارية الغريبة التي تتحدى كل شبكات التحليل والقراءة؟ قد يكون الجواب متضمنا في تلك النصيحة التي قدمها لنا ذات يوم رئيس وفد من البيرو جاء للمغرب في زيارة برلمانية، ونحن نقدم له عرضا حول آخر تطورات القضية الوطنية. تأمل الرجل طويلا فيما قلناه، وقال بحكمة المجرب (كان قد تقلد منصب وزير الخارجية لمدة طويلة) من الخطأ عند دفاعكم عن ملفكم في عدد من الأوساط الدولية - و على الأقل في امريكا اللاتينية التي أعرفها جيدا أن تقتصروا على الجوانب التاريخية أو المعطيات القانونية، ركزوا على الأساسي، هناك صراع سياسي في المنطقة، صراع اختيارات، وكلما تقلص نفوذ النموذج الذي تجسده الحكومة الجزائرية، نموذج تداخل العسكري والسياسي والحكومي، وابتلاع الأول للثاني، كلما تقلص هذا النموذج قياسا الى الدينامية السياسية القائمة في المغرب، كلما حفر الرسميون الجزائريون مزيدا من المتاريس وتخندقوا خلفها في مواقفهم التقليدية سوآء إزاء المغرب أو إزاء البناء المغاربي. وإذا صحت هذه الشبكة من القراءة والتحليل، وهي تبدو على كل حال مفيدة في تفسير الاستمرارية في الموقف الجزائري الرسمي، فإنه لا يبقى لنا غير المراهنة المفتوحة على حصافة رأي الشعب الجزائري الشقيق وما يمكن أن يمارسه من ضغط يفتح، من ضمن ما يفتح، آفاقا جديدة أمام بناء المغرب العربي وبعث روح متجددة في حلم الرواد الأوائل الذين حضروا لقاء طنجة التاريخي.