هي رحلة لا تحتاج فيها الى دليل فالأرض هي القائد ونجيع الشهداء دليلك والطريق. للأرض ملامح أهلها، وللناس ملامح أرضهم، فلا مجال للتيه والضياع عن المقصد، والأسماء المباركة نور على نور يهديك إلى منابتهم قرية قرية، مكمناً مكمناً، مجزرة بعد مجزرة، وساحات للمواجهات مرصّعة ببطولات الذين حفظوا الوطن وحفظوك بكرامة المواطن وشرف المجاهد ومجد المنتصر على المستحيل. حين تباشر الرحلة مع الصباح الأول ينبهك النسيم المطيّب بقطر الندى إلى ان الرحلة نقاهة تخرج فيها من محرقة العبث والتفاهة إلى أفق المعنى: خلفنا الطوائف والمذاهب والصراعات المهلكة للناس بين الأطراف الشركاء من أهل الطبقة السياسية أبطال الفتنة والانقسام وراءنا، فأمكن لنا أن نتقدم إلى أمام. تدريجا، أخذت لغتنا تتخفف من تعابير ولازمات صارت جزءا من قاموسنا اليومي ووسائل الترجمة الفورية لواقعنا المزري... غادرنا تصريحات السياسيين الذين إذا استعادت السياسة مضمونها المتصل بهموم الناس اختفوا تماماً أو ظهروا بعريهم الفاضح فتهاووا كقصور من كرتون. انتبهنا إلى استعادة الوعي بالطبيعة: إلى يميننا البحر الذي شطبوه من على خريطة الناس الطبيعيين في بيروت بعدما باعوا مشهده بالذراع إلى الذين اشتروا الأرض والهواء والمنظر المبهج للشروق وساعة الغروب بجلال ألوان البنفسج فيها. لم يعد في المدينة، التي بناها أهلها المتوسطو الدخل وورثوا أرضها عن آبائهم الذين منحوها أعمارهم وعرق الجباه، متسع للذين يعيشون من كدهم وسعيهم في مناكبها. ها هي الواجهة البحرية لبيروت تباع في المزادات العلنية، ويُدفع الملاكون القدامى او الذين جاؤوها كملاذ ومصدر رزق بعيدا عنها إلى الهضاب المحيطة التي كانت تتكئ إليها بيروت وتتنفس منها. لا مكان لمتوسطي الدخل في مدينتهم، ليرحلوا بصمت. الأجمل للأغنى، سواء أكان عقاراً مشرفاً أم صبية مثل قلب الصبح، أم مشهداً يأخذ إلى شعر الابتهاج بالحياة. أثرياء المصادفات لا يحبون الزحام. لا يريدون من البشر الا السكرتيريا والسماسرة والخدم. ما علينا منهم... لنعد إلى الطبيعة: إلى شمالنا التلال التي سوف ترافقنا بالبيوت المستحدثة والمتزايدة فيها بفعل موجات »المهجرين« من بيروت، بدءا من الدوحة والناعمة فالدامور التي أعيد بناؤها وما استعادت أبناءها المهجرين، فالدبية.. ثم تسمق التلال ارتفاعاً لتوفر المتكأ لبلدات اقليمالخروب وعنوانها مئذنة بعاصير، وخلفها كترمايا، ثم سبلين ومن خلفها مزبود وشحيم... صيدا جزين: الشهداء هم البوابة... ابتداء من الجية تغمرنا نسمات صيدا التي يشكل الشهداء بوابتها وقوس النصر فيها، والفاتحة معروف سعد الذي طلب الشهادة دفاعاً عن فلسطين فعزّت عليه، ثم جاءته في قلب مدينته وعلى أيدي الجلاوزة من أهل النظام في وطنه الصغير، وهو يدافع عن حق البحر في أن يمنح الرزق للصيادين فيطعم الجياع بعرق جباههم وتعب الزنود. بعده وعلى طريقه سيمضي إليه عشرات الشهداء وتاجهم مصطفى معروف سعد وناتاشا ابنته ابنة الوطن كله. حيثما التفت تطالعك أطياف الشهداء، على طول الطريق من فلسطين وإليها. تلك كانت طريق الاخوة والخير والرزق الحلال، ثم صارت درب الجلجلة للأهل المطرودين من ديارهم بنيران سفاحي الاحتلال الاسرائيلي. ولقد دفع أهل الجنوب وعاصمته صيدا الضريبة بالدم مرات ومرات: خلال الترحيل الجماعي، ثم خلال عهد المقاومة الفلسطينية التي بشرت بثورة وانتهت سلطة بائسة تخدم الاحتلال وتوسع للاستيطان المدى وتتنكر للشهداء... ومعها بدأت اجتياحات إسرائيل، قبل أن تقيم لنفسها شريطاً محتلاً يحرسه بعض عملائها من أهل الداخل، تمهيداً لأن تتقدم في اتجاه العاصمة الأميرة بيروت التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء... لكن ذلك من الماضي... بعده تولت المقاومة كتابة التاريخ، وها نحن نبحر في بعض أسفاره نحو منبع التحرير ومرسى مجد الصمود. الشوارع في صيدا تبارك ذاتها بأسماء الشهداء، يأخذك واحدهم إلى الآخرين، ثم تمتد الأسماء المباركة حبل سرة بين الجنوب وعاصمته، وتتهاوى الطوائف والمذاهب لتتأكد وحدة المسيرة والمصير. في الشهادة لكل عائلة نصيب. لكل حي من احياء صيدا الاسم المبارك. والطريق محطات للمواجهة مع العدو ومن استدرجتهم الخطيئة اليه فقاتلوا معه بدل ان يقاتلوه وأعاروه وجوههم وهو يتقدم لاحتلال مقابر أهلهم ومستقبل أطفالهم. توسعت صيدا فغدت عالماً جديدا. فتح التحرير أمامها أبواب التوسع شرقاً وشمالاً، فاحتضنت ضواحيها وتمددت بها وعبرها وأزالت الفواصل فإذا الناس يعودون إلى حقيقتهم البديهية: هم واحد... الأرض هي الجامعة والمصير هو الموحد، والرزق يوطد وشائج الاخوة... وصيدا الكبرى تحتضن عبرا والبرامية والهلالية وجدرا وترتفع إلى مجدليون ويتمدد بحارتها إلى أعلى لتؤكد وحدة الأهل فيها ومن حولها. عند كفرفالوس يستوقفك الحلم المحروق عمداً: هذه المباني المهجورة كانت نواة لمجمع ضخم يضم مستشفى وكلية ومجمعاً للمدارس، بأمل ان تتحول إلى جامعة. المبنى المحروق شاهد لا يغيب على الجريمة والمجرم الذي حاول اغتيال العلم... كما انه شاهد على التواطؤ بين المحتل وعملائه وعلى »مدينتهم« جميعا. لقد تقصد العدو قتل الحلم وسعي الأهل نحو العلم، نحو الإنجاز وتبديل الواقع الذي يقسم الأهل خصمين متنازعين. رفيق الحريري مر من هنا. هنا كانت البداية التي لم يقدر لها أن تكتمل. نعبر جزين التي حفظ الأهل رباطها المقدس مع سائر الجنوب، وهي منه وفيه، بل وفيها »حوزته« الأولى، ليست طارئة عليه ولا هو تنكر لها أو أنكرها، على تبدل الأحوال. في جزين وقف الذين أبت عليهم كرامتهم الوطنية ان يستكينوا للمحتل وأن يمشوا في ركابه ويكونوا له أدلاء. قالوا: لا، مدوية بزخم الايمان بأرضهم واضطر ضابط الاحتلال الى أن يأمر جنوده بالانسحاب والاكتفاء بتطويق المدينة. كفرحونة: الأرض هي الحماية والدليل... كفرحونة هي المحطة الفاصلة بين عالمين، ما قبلها قبل، وما بعدها بعد. ابتداء من هذه النقطة وامتداداً حتى تخوم الوطن التي يغلفها ضباب خفيف يجعلها في موقع الحلم، تتدرج سلسلة من التلال ارتفاعاً فتبلغ في بعض الحالات علو الجبال. في هذه التلال كان الاحتلال الاسرائيلي قد أقام مواقعه وحصنها بالدشم الخرسانية، مرابض المدفعية، تربط بينها نقاط ارتكاز ودعم ومواقع حصينة لحماية الدبابات مموّهة جيداً، وعلى امتداد الطرق وتفرعاتها كان يقيم حواجز من عملائه، بينما جنوده متحصنون في مخابئ مشرفة حتى اذا استدعى الأمر تدخلهم احرقوا الأرض بمن عليها بقذائف المدفعية والدبابات... فإذا لزم الأمر تدخلت الطائرات! كيف ارتقوا اليهم من بطاح الوديان والأرض المنبسطة ثم انقضوا عليهم في مخابئهم الحصينة فاضطروهم إلى الهرب، وأجلوهم عنها أحياناً؟! كيف استطاع اولئك الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى، وبأرضهم فزادتهم شجاعة ان يتسلقوا اليهم الوعر، وأن يداهموهم في قلب دشمهم المصفحة فيوقعوا في قلوبهم الرعب، ثم يستمعوا إليهم باستمتاع وهم يطلبون النجدة مذعورين؟ كيف، وهم الفتية الأغرار، استطاعوا ان يسحقوا الخوف وأن يتقدموا إلى عدوهم المصفح فيواجهوه بتكتيكاتهم وأسلحتهم البسيطة وإيمانهم الثابت فيدفعوه إلى الفرار، أو إلى الاحتماء خلف جهنم النيران؟! هي أرضنا. هي ترشدنا. هي تقودنا فتوجهنا وتحمينا. والإيمان مظلتنا. .. ثم إنهم يعرفون انهم محتلون. يعرفون أن الأرض ستكشفهم امام أهلها. الأرض مباركة. ليس هذا شعرا. انها تعرف اهلها. تعرفهم من أنفاسهم. وتعرف مهماتهم فتمتص وقع أقدامهم. تفتح لهم مسالك غير مطروقة بحيث ينكشف لهم عدوهم مهما أتقن تمويه نفسه.. سبحانه وتعالى. انه ناصرنا. »وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى«. يرددون امامك اسماء التلال والهضاب وعبق الايمان يغلف كلماتهم. لقد اكتسبت شيئا من القداسة: ألم يطهروها بدمائهم؟ ألم تحفظهم وتكشف امامهم عدوهم؟ ألم تيسر لهم طريق العودة بعد إنجاز المهمة؟ العدو أسطورة. واجهه تنكشف الاسطورة امام حقيقتك، في كل المواجهات وبأسرع مما تتوقع. قوته تكمن أساساً في الخوف منه. متى تغلبت على خوفك بإيمانك هزمته، ومعينك الأرض. هي أرضك. تحيط بك كوكبة من المجاهدين. لا مجاملات. العاطفة صادقة. جهادهم صادق. تواضعهم صادق. لا مظاهر ولا ادعاءات. ما أعظم البطولة ببساطتها! تعرفهم الصخور وأشجار السنديان... يقودنا مجاهد صاحب تجربة. يبدأ شرحه التبسيطي، بجولة في كتاب الأرض. يتقدمنا إلى نقطة محددة. تطالعنا التلال التي تشكل حاجزا يحجب عنا البحر. يعددها كمن يستذكر ابناءه. يكاد يعطيها اسماء دلع. يحدثنا عن تكتيكات العدو. عن استخدامه للمرتزقة من جيش لحد كأكياس حماية. يروي لنا تفاصيل بعض المعارك وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح. يربط القتال بالهدف دائماً. يتغزل بتضاريس الأرض. نحس ونحن نمشي خلفه كأن الأرض تعرفه ورفاقه من وقع أقدامهم فوقها. تكشف لهم أسرارها وتنبئهم بمكامن العدو. أي تمويه في طبيعتها كمين. أتأمل وجوه هذه الكوكبة من الرجال البسطاء. بينهم من يشبه عمي، بينهم من يحمل ملامح خالي. بعضهم كأنه جاري الذي كان يسبقني بالتحية برغم أنه أكبر مني سناً، ثم يسألني ان كنت أريد شيئاً من السوق لأنه في طريقه إليه. يحدثنا فنسمعه بقلوبنا. نصدق كل حرف. التجربة ناطقة. انه يروي تاريخنا مكتوباً بنجيع الذين أعادوا صياغته، فمحوا منه الصفحات السوداء. يعتلي صخرة. نكاد نسمع صوتها تحييه. انها تعرفه. يمسك بغصن شجرة سنديان، تهسهس وريقاتها كأنها ترحب به. نلتقي مع كوكبة منهم حول فنجان شاي. لا رتب ولا بروتوكول. لكن كلاً منهم يعرف موقعه فلا يتجاوزه. كل يتحدث في موضوعه. لا أحد ينطق كلمة »أنا«. لا أحد يروي واقعة الا وأول الكلام بسملة وآخر الكلام صلاة على الرسول، لكن السياق علمي، مدقق، والتفاصيل موثقة، والأرض ناطقة، والدم شاهد، والانجاز يسقط من ذهنك الشك. لا أحد مضطر للمبالغة. الحقيقة ناطقة. قالت: أعرفكم وأعرفها.. لن أغادر نمشي عبر خط سير التحرير حتى نبلغ تخوم ساحة الشرف. نلتقي كوكبة من الرجال البسطاء. فلاحون، ملاكون، مثقفون. أبناء الأرض الذين افتدوا الأرض بالدم. لا خطب. لا كلمات رنانة. لا تعابير جوفاء. لا ادعاءات. الصدق يشع حتى يملأ الأفق. لكل منهم شهيد، شهيدان، ثلاثة. ربما أكثر. الحزن في القلب، لكن المهمة أقدس من ان تضيع في التحسر على ما كان. الإيمان عظيم. لم يذهب أحد الا في يومه... لم يذهب دم أي شهيد هدراً. كيف تحيي من عاشت أياماً وليالي من القصف والتدمير في بيتها ورفضت ان تغادره. قالت: كيف أغادر أهلي، ولمن أترك أرضي! انها أمانة في عنقي. أبقى فيها. لن تعجزوا عن حمايتها. أعرفكم وأعرفها. الله يحمينا وإياها. اذهبوا إلى مهماتكم. سأحرسها وتحرسني. سأحرسها وأنا فوق وسأحرسها وأنت في قلبها. لا تخافوا عليّ. هي ستحنو علي وعليكم. ألم تحمكم؟ ألم توفر لكم الحصن والحضن؟ على التخم نقف معهم. سقط الخوف من زمان. صار الخوف في الجهة الأخرى: »الآن يمكننا ان ننظرهم فيهربون من أبصارنا ويختبئون. نعرف عنهم كل شيء. الجهل هو مصدر الخوف. ان عرفت عدوك انتقل الخوف اليه«. نقف في عيناتا أمام الضريح الجماعي للمجازر التي ارتكبها العدو بالمدنيين. نساء وأطفال وشيوخ. لا حزن مع الشهداء. بل هو الاعتزاز. لم يذهب الدم هدراً. لقد افتدوا أرضهم. في عيون الناس التماعة خاصة. هم هنا. كانوا هنا انتصروا هنا. سيبقون هنا. مضى زمن التهجير والرحيل مع اول طلقة. ثابتون هنا كما الجبال، كما التلال، كما الصخور، كما الينابيع، كما أشجار السنديان. صاروا يفكرون في الأرض المقابلة... تنظر إلى البيوت التي بالكاد أنجز بناؤها. بعضها أعيد بناؤه للمرة الثالثة. مع سقوط الخوف صار بإمكان الناس ان يبنوا على التلال والهضاب المحيطة. يعرفون انهم كلما بنوا بيتا جديدا سوف يزداد خوف العدو. سيبقى البيت. لن يهدم بعد الآن. ان هدمه العدو فسنبني عشرة بيوت في الأرض الفلسطينيةالمحتلة التي نعرفها اكثر منه. هم يعرفون القرى والتلال والوديان، وربما الشجر، في الجهة المقابلة بأسمائها الأصلية. يشيرون إلى مواقع صفد. يحددون المسافة إلى حيفا ويافا. لقد انتقلوا بأفكارهم إلى الضفة الثانية. نلتقي القائد الميداني. لا يخطب. لا يتهدج صوته بكلمات ذات دوي. الانجاز يتحدث عن نفسه. الشهداء شهود. البيوت شهود. التلال شهود. الدروب شهود. كل ما حولك يقدم شهادته. ثم ان العدو لم يستطع ان يهرب من الواقع الذي شهد عليه العالم كله. لا نريد لليوم ان ينتهي. لكن الشمس سوف تنسحب آمنة الى انها سوف تشرق غدا على الأهل في ديارهم، وسوف ترسل أشعتها لتحيتهم، ولسوف تمنح ارضهم الدفء لتعطيهم ثمراً عظيماً. في طريق العودة إلى بيروت كنا على أتم الثقة في أن العاصمة الأميرة لن تحترق... الجنوب بخير. طمنونا عنكم! من أقوال نسمة قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب: يريدك حبيبك ان تكون له وحده، وأن تكون معه دائماً، لا تفكر الا فيه، ولا تتحدث الا عنه... لكنه سرعان ما يكتفي بلمسة أو همسة يفترض أنك ضمنتها كل ما يطلبه. الحب يكره الخطب، اما المحب فيريد ان يسمع العالم قصة حبه لينتشي. كل محب هو الأول. كل محب هو الحب كله!