إن كلمة الإصلاح توحي بأن الصحافة التي وصفت بأنها المجال الحيوي بالنسبة للديموقراطية الناشئة ربما تكون في حاجة إلى تدخل من قبيل قرارات تتخذها السلطات العمومية والمؤسسات الدستورية. وفي رأيي ليس هذا هو حال الصحافة المكتوبة الورقية والإكترونية، والحال أن النقاش يكاد ينحصر منذ مدة حول هذه الصحافة ولا يتعداه إلى السمعي البصري، الذي ينظمه القانون 77.03 . إن أوضاع الصحافة المكتوبة تطرح بإلحاح من جانبين، الأول هو الإطار القانوني الذي تمارس فيه الصحافة المكتوبة حضورها في المجتمع، والجانب الثاني هو تأهيل هذه الصحافة لكي تمارس ذلك الحضور بكفاءة ومسؤولية. ومن الناحية القانونية لا حاجة للتذكير بأن النص الجاري به العمل مطروح للمراجعة. وهناك نص متوافق عليه إلى حد كبير منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، وهو ينتظر أن يطرح على القنوات الدستورية المعتادة لكي يأخذ طريقه نحو المناقشة والمصادقة. وكان قد ساد الاعتقاد في وقت ما بأن ذلك التطور إنما تعثر فقط بسبب الميل إلى تركه للحكومة القادمة بعد انتخابات 2007 . والواقع أن المشروع الجاهز للمناقشة يحقق تقدما، ويفي ببعض المطالب الملحة، وإن كان ما يزال يتطلب بعض التدقيقات. ومن سماته البارزة أن ثلثه تقريبا يتعلق بهيكل مبتكر اسمه المجلس الوطني الذي يراد له أن يقوم بدور هو مزيج من الضبط والتحكيم. غير أن ما أخذ يطرح بإلحاح في المدة الأخيرة هو عنصر الضبط. أي العمل على ألا تخرج الصحافة المكتوبة عن خط احترام الثوابت. والمواجهات التي وقعت في السنوات الأخيرة بين الصحافة المكتوبة والسلطات العمومية، عبر القضاء، كان سببها هو التبرم من خرق الخطوط الحمراء، وهي مسألة أسالت كثيرا من الحبر. والأمر القابع من خلف كل النقاش الدائر والمواجهات القائمة، هو الرغبة المعروفة والدائمة من لدن السلطات العمومية في جعل الصحافة تحت السيطرة، والحال أن ظروف الانفتاح قد سمحت بإفراز ظاهرة صحية وهي الصحافة الخاصة، المستقلة عن الأحزاب السياسية والنقابات. وتجب الإشارة إلى أن فلسفة تقنين السمعي البصري تقوم على أساس أن هناك موجات أثيرية هي ملك للدولة وهذه تقوم بتفويتها إلى الفاعلين المؤهلين لذلك بناء على مقاييس وقواعد. أما الطباعة والنشر فهما منذ البدء حران. ويبادر الخواص إلى ممارستهما في إطار قواعد تتضمنها قوانين مصادق عليها بالوسائل الشرعية. وهذا هو الفارق الأساسي بين المجالين. الطباعة ليست ملكا للدولة بل للمجتمع بينما الأثير هو ملك للدولة. ومنذ قانون 1888 في فرنسا الذي وقع الاقتداء به في المغرب، تعتبر ممارسة الطباعة والنشر حقا مشاعا للمواطنين في نطاق ممارسة حرية التعبير عن الرأي، وفقط حينما تكون هناك مبادرة قائمة في شكل شركة يجب أن تخضع لشروط معينة ينص عليها الفصل الخامس. أما السمعي البصري فقد نشأ في أحضان الدولة. واهتدت الدولة العصرية إلى تنظيم منح رخص من أجل استعمال أمواج الأثير، (بينما ممارسة الطباعة لا تحتاج إلى ترخيص). ونظرا لتداخل المصالح فيما بين الفاعلين تقرر الاتفاق على مبادئ تنظم التنافس فيما بين الفاعلين في السمعي البصري، وصولا إلى تلافي الاحتكار وضمان الشفافية. وهناك دول أسند فيها البت في الموضوع إلى البرلمان، وأخرى أحدثت أجهزة خاصة، مثل ما هو جار به العمل في المغرب. وسواء في السمعي البصري أو المكتوب، فإن كل النقاش يدور حول حماية حرية التعبير وتعزيزها. هذا من الجانب القانوني، ومن حيث التأهيل، فإن وضع الصحافة المكتوبة عندنا يطرح مسائل بنيوية وأخرى ظرفية يمكن إجمالها في البنود التي تشكل جدول أعمال الحوار الجاري بين الوزارة الوصية والنقابة والناشرين بشأن العقدة البرنامج. وهو حوار ناضج إلى حد كبير. وقد تعزز المشهد بإقامة جهاز للتدقيق في الأرقام المتعلقة بالروجان، مما يوطد الشفافية ويشيع العمل بالمقاييس الموضوعية في العلاقات بين الفاعلين. وهذا الجهاز مستقل عن الدولة وعن المتدخلين في المجال، في حين أن قانون 1958 كان يعطي للوزارة الوصية مع المفتشية العامة للمالية إجراء مراقبة على المداخيل الآتية من البيع. إلا أنه في غمرة إعادة التأهيل الذي انخرطت فيه الصحافة المكتوبة، يلاحظ أن بعض السلبيات ما زالت قائمة، إن لم تكن قد استفحلت، وأهمها ضعف كفاءة المقاولة الصحافية المغربية. إن الجريدة اليومية المغربية هي منتوج يتم صنعه في حوالي 4 إلى 6 ساعات، لأن الجريدة يجب أن تسلم للموزع قبل الخامسة مساء. ويقدم هذا المنتوج في حوالي 12 إلى 16 صفحة في الغالب، وفي حالات معدودة في 20 إلى 24 صفحة. وهو منتوج يستهلكه بالأولوية جمهور مستوطن في الدارالبيضاءالرباط، وينتجه طاقم يتألف في الغالب من أقل من 20 صحافيا. وتبعا لسجلات سنة 2008 هناك خمس جرائد تشغل ما بين 33 و 61 صحافيا. و3 منها تشغل فوق 20 . و8 جرائد تشغل أقل من 20 . واثنتين تشغلان فقط 6 و9 صحافيين. ومجموع الحاملين للبطاقة المهنية في الصحافة المكتوبة كانوا في السنة المذكورة 444 في الجرائد اليومية، و199 في الجرائد الأسبوعية. ومجموعهما 643 صحافيا في النوعين، ويحيلنا هذان الرقمان، على حقيقة كون الصحيفة المغربية يصدرها في الغالب طاقم محدود، بل يجب أن نلح على أنه صغير. و طبيعي أن أداء المقاولة الصحافية المغربية يبقى مرتبطا بحجم الطاقم، وبالزمن الذي تنجز فيه. ومعلوم أن أي جريدة يومية ذات كفاءة في بلدان متقدمة يصنعها مئات من المهنيين الأكفاء، ويستمر صنعها من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل. أي أن مسلسل الإنتاج يخضع للمراجعات والتدقيقات الضرورية. وكما حدث في المشهد الحزبي الشديد التفتت بسبب الانشقاقات، فإن تعدد المنابر الصحافية ( 21 يومية، و27 أسبوعية كلها تعتبر مصنفة حسب اللجنة الثنائية المعهود إليها بالنظر في العقدة البرنامج) راجع إلى سبب واحد، وهو الميل إلى الاستقلال بالأمر في خلايا صغيرة، قليلة التكاليف، بدلا من ضم الجهود في تجمعات مهنية كبيرة يتطلبها إنجاز جريدة يومية ذات كفاءة في إشباع تطلعات القراء. فكل جريدة جديدة هي نتيجة الانشقاق عن جريدة أم. مما يجعل السوق مكتظة بالعناوين. ومعلوم أن تكاثر العناوين لا يعتبر مظهرا للإرتقاء بالممارسة المهنية، وهو فقط دليل على ليبرالية القانون المغربي الصادر في نوفمبر 1958 . إن خدمة مرتفعة القيمة للقارئ تتطلب أولا مقاولات مقتدرة من حيث الموارد البشرية ومن حيث المقدرة المالية. وهذا من ضمانات احترام أخلاق المهنة. فإن المقاولة القوية ماليا وبشريا تستطيع أن تقف دون الضغوط التي يمكن أن تتطلع إلى ممارستها قوى المال أو السلطة. وبدون ذلك ستستمر الأوضاع الراهنة التي تتسم أولا بعدم القدرة على تقديم إنتاج متقن تتوفر فيه الشروط المهنية الصارمة، أي الدقة والتحري وهما عماد المسؤولية. فالجريدة المسؤولة لا تقع في المحظور من قبيل الاعتماد على الشائعات، أو احتراف الشتم بكيفية سوقية، وأحيانا التشهير بهذا الجنرال أو ذاك لفائدة جنرال آخر يحقد عليه، وفي كثير من الأحيان نشر بيانات وصور مسربة من قبل جهاز في الدولة ضدا على جهاز منافس، أو نشر معطيات غير دقيقة يتم الاعتذار عنها حينما تحمر النظرة. ناهيك عن السخرية يوميا من الأحزاب السياسية والمؤسسات، بكيفية لا تخدم إلا الراغبين في خلق الفراغ للانتصاب فيما بعد كمنقذين للوطن. لكن الصحافة الخاصة ليست هذا فقط. لقد عبرت في الغالب عن ديناميكية فائقة اعتملت في المجتمع منذ الانفتاح الذي طرأ على حياتنا في بداية التسعينيات. كسرت بشجاعة طابوهات منيعة. ورفعت الوعي بأن هناك مطالب لا تحتمل الانتظار. أريد أن أختم بمشهد معبر عن علامات الساعة التي نحن فيها. علامة على التفاعل النشيط الذي عرفه مجتمعنا بفضل الديناميكية الجديدة في الإعلام وفي مباشرة الشأن العام. فقد كان كافيا أن تنشر الصحف الخاصة صور نساء من الأطلس يطلقن صرخة ضد البرد القارس، المعشش هناك في الأعالي، لكي يقع الانتباه إلى الصرخة. وحينما تم تسليط أضواء الكاميرات عليهن، رفعن إصبعين كعلامة انتصار. وهذا المنظر أثارني لأنه يعني أن تكنولوجيا الإعلام التي نقلت العالم إلى هناك في أقاصي قرية بالأطلس، لقنت أولئك النسوة أن هناك إشارات تعني في اللغة الكونية أن العالم قرية. وفي المحصلة فإن الرسالة وصلت. وتحركت السلطات بدافع من التأنيب الذي انطوى عليه كل ذلك. كان البدء بصورة في جريدة خاصة قررت أن تتصدر صورة نسوة الأطلس الصفحة الأولى. ولأن الصحافة قامت بدورها والسلطات كذلك، أصبح مشهد نقل المؤن إلى القرى النائية المهمشة من فقرات في النشرة الرئيسية أصبحت تتكرر. وتذكر المتصرفون في الطائرات العمودية أن تلك الآلات يمكنها أن تنزل عموديا وتغلب التضاريس. وفي النهاية. ما الذي يجب أن يسود لكي يقوم الإعلام بدوره، والسلطات بدورها، ولكي يتحرك المجتمع بطمأنينة. (*) وزير الاتصال الأسبق