تزور القاهرة هذا الأسبوع لجنة الحريات الدينية التابعة للكونغرس الأميركي. تتكون هذه اللجنة من تسعة أعضاء، كلهم من الشخصيات البارزة في مجال الدفاع عن الحريات، يختار الرئيس الأميركي ثلاثة أعضاء، وتختار قيادات في الكونغرس عضوين من الحزب الحاكم وأربعة أعضاء من خارجه. مهمة هذه اللجنة مراقبة حرية الدين والفكر والاعتقاد المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي لا تصدر عقوبات ضد الدول التي تنتهك الحريات العامة، لكنها تصدر توصيات، يفترض أنها تؤخذ في الاعتبار عند رسم السياسة الخارجية الأميركية.. طبقا لما نشرته الصحف، فإن زيارة لجنة الحريات الى القاهرة كانت محددة سلفا، لكنها تكتسب الآن أهمية خاصة في أعقاب مذبحة نجع حمادي البشعة التي راح ضحيتها ستة أقباط أبرياء (وجندي مسلم) اغتيلوا بطريقة عشوائية أثناء خروجهم من الكنيسة ليلة عيد الميلاد.. والحق أن زيارة اللجنة الى القاهرة في هذا التوقيت تثير أكثر من موضوع: أولا: إن التحقيق أو البحث في موضوع ما، بواسطة لجنة برلمانية من دولة أخرى يعتبر انتهاكاً صريحاً لسيادة الدولة التي يجري فيها التحقيق. . إن مصر، من الناحية الرسمية على الأقل، ليست ولاية ولا مستعمرة أميركية، وبالتالي لا يجوز للجنة تابعة للكونغرس أن تمنح نفسها صلاحيات البحث والتحقيق في مصر.. ونحن نتساءل: ماذا لو تشكلت لجنة من مجلس الشعب المصري من أجل التحقيق في الجرائم التي يرتكبها الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان وغوانتانامو؟ هل تقبل الإدارة الأميركية استقبال اللجنة المصرية وتسمح لها بالبحث والتحقيق؟ الإجابة للأسف معروفة.. المحزن أن النظام المصري يرفع شعار السيادة الوطنية بشكل انتقائي ومغرض، فعندما يطالب المصريون بمراقبين دوليين مستقلين للانتخابات المصرية، حتى لا تُزوَّر كالعادة، ترفض الحكومة ذلك بشدة بحجة السيادة الوطنية، وعندما تشترك الحكومة المصرية مع إسرائيل، في حصار مليون ونصف مليون إنسان في غزة ويسعى المحاصرون الى دخول مصر هربا من الموت، لكي يشتروا احتياجاتهم الإنسانية، تمنعهم السلطات المصرية بحجة السيادة الوطنية، وتأمر بإطلاق الرصاص عليهم ويصيح السيد أبو الغيط وزير الخارجية: «الفلسطيني الذي سيعبر الحدود سأكسر قدمه..»أما أعضاء لجنة الحريات الأميركيون الذين يجوبون مصر الآن كما يريدون من أقصاها الى أقصاها ويجرون الأبحاث في شؤون مصر، فهؤلاء لا يستطيع أبو الغيط أو سواه أن يعترض على وجودهم بكلمة واحدة. ثانيا: الأهداف المعلنة لهذه اللجنة رائعة ونبيلة ولكن، كما يحدث دائما في السياسة الخارجية الأميركية، فإن المسافة شاسعة بين الشعار والتطبيق. نذكر هنا أن رئيسة اللجنة السيدة فيليس غاير، من أكبر وأشهر مناصري إسرائيل في الولاياتالمتحدة ولها تاريخ طويل في الدفاع عن الصهيونية لدرجة أنها اتهمت المنظمات الدولية (بما فيها الأممالمتحدة) باتباع سياسات ظالمة ومجحفة ضد إسرائيل. ولا أفهم فعلا كيف توفق السيدة فيليس غاير بين دفاعها عن حقوق الإنسان ودفاعها عن السياسة الإسرائيلية؟ وما رأي سيادتها في حرق الأطفال باستعمال القنابل الفوسفورية والعنقودية وقنابل النابالم؟ وهذه الجرائم ترتكبها إسرائيل باستمرار، منذ مذبحة بحر البقر في مصر، مرورا بمذبحتي قانا وحتى مذبحة غزة الأخيرة.. هل ترى السيدة فيليس أن شيّ جلود الأطفال العرب بالقنابل الممنوعة دوليا يتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان الذي تدافع عنها في لجنتها؟ ثالثا: اذا كانت اللجنة مهتمة باضطهاد الأقباط في مصر، فنحن نسأل أعضاء اللجنة هل تهتمون بالأقباط دفاعا عن حقوق الإنسان أم بسبب أن الأقباط مسيحيون؟ اذا كان الدافع حقوق الإنسان فنحن نذكركم بأن عشرات الألوف من الشباب الإسلاميين في مصر يعيشون في غياهب المعتقلات من سنوات طويلة بدون محاكمة أو تهمة، وكثير منهم صدرت لهم أحكام إفراج عديدة، لم ولن تنفذها الحكومة المصرية أبدا. لماذا لا تدافع اللجنة عن حق هؤلاء المعتقلين في العدل والحرية؟ أليسوا متساوين مع الأقباط في حقوق الإنسان؟ وما رأي اللجنة في جرائم الاغتصاب وقتل المدنيين والتعذيب المنسوبة الى أفراد الجيش الأميركي في العراق. هل اتسع وقتكم للتحقيق في هذه الجرائم؟ أنا أنصح لجنة الحريات بالسفر فورا من القاهرة الى نيجيريا، حيث تفيد التقارير بحدوث مذابح طائفية راح ضحيتها عشرات الأبرياء (معظمهم مسلمون).. وسوف أورد هنا تقرير منظمة دولية محايدة محترمة هي.. «هيومان رايتس ووتش» التي قالت بالحرف: «في يوم 19كانون الثاني/ يناير. هاجم مسلحون قرية كورو كاراما النيجيرية وأكثرية سكانها من المسلمين، وبعد أن حاصروا القرية بدأوا بملاحقة وقتل السكان المسلمين الذين التجأ بعضهم في منازل وفي مسجد القرية، لكن المسلحين راحوا يطاردونهم فقتلوا الكثيرين حتى انهم أحرقوا البعض وهم أحياء»... ما رأى اللجنة الموقرة في هذه المذبحة. هل تتوافق مع حقوق الإنسان؟ رابعا: هل يمكن الدفاع عن حقوق الإنسان جزئياً..؟ هل يمكن الدفاع عن حقوق الأقباط فقط في بلد يحكمه نظام استبدادي باستعمال قانون الطوارئ وتزوير الانتخابات والقمع والمعتقلات؟ الإجابة بديهية.. إن حقوق الإنسان لا تتجزأ أبدا، لكن السياسة الخارجية الأميركية كعادتها تتميز بالتناقض والنفاق، فالإدارة الأميركية، من أجل حماية مصالحها ومصلحة إسرائيل، تقدم الدعم الكامل لأسوأ الحكام المستبدين في العالم العربي وتغمض عينيها عن الجرائم التي يرتكبونها في حق شعوبهم، لكنها في الوقت نفسه تبعث بلجان للتحقيق في اضطهاد الأقباط. خامسا: إن ما حدث ليلة عيد الميلاد في نجع حمادي مذبحة طائفية بشعة زلزلت مصر كلها، ومن حق الأقباط أن يغضبوا ويطالبوا بكل ما يمنع تكرار المذبحة، لكن عليهم أن يتذكروا أمرين: أولا ان النظام المصري الذي فرّط في حماية الأقباط هو ذاته النظام الذي تدعمه الكنيسة المصرية بكل قوتها، حتى أن البابا شنودة وكبار قادة الكنيسة قد أعلنوا بوضوح أكثر من مرة ترحيبهم بتوريث مصر من الرئيس مبارك الى ابنه جمال (كأن مصر صارت مزرعة دواجن). الأمر الثاني: ان تظاهرات الأقباط داخل مصر وخارجها احتجاجا على المذبحة أمر طبيعي ومشروع، أما الاستغاثة بالدول الغربية ومطالبتها بالتدخل في مصر فهو سلوك مرفوض يدفع بالغضب القبطي بعيدا عن حدوده المشروعة. إنني لا أصدق أن وطنيا مصريا واحدا، مسلما كان أو قبطيا، يسمح له ضميره بأن يدعو القوى الأجنبية الى التدخل في وطنه مهما بلغت المظالم التي يتعرض لها ومهما بلغت معارضته للنظام الحاكم... إن المصريين جميعا مضطهدون، ملايين الفقراء في مصر محرومون من الحرية والعدل والكرامة وحقوق العمل والسكن والعلاج... صحيح أن الأقباط يتعرضون الى ظلم مزدوج مرة باعتبارهم مصريين ومرة باعتبارهم أقباطا، لكن مطالب الأقباط المشروعة لا يمكن أن تتحقق خارج مطالب الوطن... لا يمكن أن نطالب بالعدالة للأقباط وحدهم دون بقية المصريين. إن بعض الأقباط الذين يحتمون بالقوى الغربية يرتكبون خطيئة وطنية ستؤدي الى تشويه صورة الأقباط جميعا وإظهارهم كأنهم عملاء للقوى الغربية. ومهما استغاث بعض الأقباط بالرئيس أوباما أو سواه من قادة الغرب، فإنهم لن ينالوا حقوقهم أبدا بفضل التدخل الأجنبي، لأن ما يحكم السياسة الغربية المصالح، دون المبادئ، وتاريخ الدول الغربية حافل بالأمثلة على النذالة السياسية الكاملة، ولعلنا نذكر شاه إيران الذي قضى حياته كلها خادما لمصالح الولاياتالمتحدة، لكنها تخلت عنه تماما في يوم واحد، وتركته وحيدا يواجه مصيره أمام طوفان الثورة الإيرانية. إن مطالب الأقباط يجب أن تكون وطنية لا طائفية، إن مكان الأقباط الصحيح ليس أبدا في أروقة وزارات الخارجية الغربية. مكانهم الصحيح هنا، في مصر، مع إخوانهم المصريين الذين يناضلون من أجل العدل والحرية. عندما يزول نظام الاستبداد وينتزع المصريون جميعا حقهم الطبيعي في اختيار حكامهم بحرية.. عندما ينتهي قانون الطوارئ وتزوير الانتخابات والقمع والتعذيب.. عندئذ فقط سيحصل المصريون جميعا، المسلمون والأقباط، على حقوقهم المهدورة... ..الديموقراطية هي الحل.