شكلت الترقية مكسباً من المكاسب المهمة التي أقرها النظام الأساسي للوظيفة العمومية ووضع لها مقاييس بغية تحقيق العدالة والإنصاف بين الموظفين، وعملت النقابات عبر مسارها النضالي على صيانتها والدفاع عنها، استجابة لمصالح مناضليها وحرصاً على ما يجعل فرص الاستفادة منها أكبر. ونظراً لكون الترقية تشكل حافزاً مادياً ومعنوياً للموظف لتحقيق تغيير في الوضعية الادارية، عبر الارتقاء على صعيد السلم أو الدرجة أو الرتبة، فقد فتحت المجال للتنافس بين الموظفين على قاعدة معايير مختلفة تهم المؤهلات والكفاءات والأداء والمردودية والسلوك المهني. وقد اعتمد فيها المشرع على ثلاثة أنواع هي: الترقية بالأقدمية والترقية بالامتحان المهني والترقية بالشهادة أو الدبلوم. اعتباراً لكون الترقية بالامتحان المهني هي أكثر هذه الأنواع تجسيداً للتنافس بما تتيحه من سرعة في الترقي، فإنها ظلت محط اهتمام ومتابعة بالملاحظة والنقد من طرف كثير من المعنيين بها، سواء على مستوى نتائجها أو مختلف التدابير والاجراءات الأخرى التي تخضع لها. وإسهاماً في مناقشة هذا النوع من الترقية بروح علمية تضع مسافة بينها وبين الموضوع ولا تريد من طرحه سوى إثارة الرغبة في قراءته، بغية الكشف عن طبيعته ومستوى ما وصل إليه في نظر المعنيين به. في هذا السياق، نركز الاهتمام على الامتحان المهني كسبيل وأداة لتحقيق الترقية من خلال مساءلة كثير من الجوانب المرتبطة به، ومن ذلك، طبيعته وأهدافه والمعنيون به وشكل تنظيمه ونتائجه وانعكاساته المختلفة، إذ أن ذلك كله مما يسمح بتقييمه موضوعياً والتفكير في سبل تطويره وتجاوز سلبياته. فإذا كان هذا الامتحان يروم اختبار القدرات البيداغوجية والمعرفية المحصلة لدى الممتحن في سياق تجربته المهنية، لأنه يفترض أن يكون قد اكتسب العديد من الخبرات وصقل العديد من المهارات، فإن الأسئلة كما تطرح عادة، بالرغم من التطور الذي عرفته، سواء على صعيد صياغتها أو من خلال التصور الناظم لها، تكشف عن نوع من الخلل واللاتوازن، حيث يحظى الجانب الديداكتيكي والبيداغوجي بأهمية كبرى، قياساً إلى الجانب المعرفي الذي أصبح يتراجع يوماً عن آخر، في زمن الانفجار المعلوماتي الذي فرض إعادة النظر في مصادر المعرفة التقليدية، وكشف عن عجز المدرسة المغربية عن المواكبة، بسبب ظاهرة العزوف أو التراجع في القراءة وغياب الفكر النقدي والخلاق. إن المواضيع المطروحة في الامتحان المهني، رغم نية واضعيها في جعل المعرفي متلاحماً مع البيداغوجي، لم تكن لتفلح في مبتغاها، لأنها لم تسائل العنصر المعرفي في تجدده وإبداعيته، حيث التجديد البيداغوجي يستوجب تجديداً على صعيد المعرفة العلمية (المرتبطة بالمواد المدرسة) وهذا ما ليس حاصلا على الأقل في التعليم الابتدائي الذي لازالت كثير من المعارف المروجة فيه شبيهة بمسلمات يحفظها التلميذ ويعيد إنتاجها بصورة باهتة للمألوف والمطرد، بعيداً عن الفهم والتحليل والنقد (الدرس اللغوي مثلا، المعرفة الدينية، التاريخية، وأحياناً العلمية تبعاً لمستوى الناهضين بها). إن الامتحان المهني بطبيعته الحالية ليس بقادر على الكشف بدقة عن المستوى الحقيقي للممتحن، لأن أسئلته غير هيكلية وغير عميقة، ولكنها تفتح المجال للمغامرة وركوب الرهان بدون إعداد واستعداد كبيرين، ولعل هذا ما يطرح بحدة ضرورة وجود أطر مرجعية يتولى إعدادها باحثون في مواد التدريس إلى جانب خبراء وديداكتيكيين، فضلا عن بيداغوجيين، وليس الاقتصادر على تقنيين أو أطر المراقبة التربوية، لأنهم بالرغم مما يمتلكونه من خبرة وحس تربويين غير قادرين على تلمس كل جوانب التطور التي يستوجبها مجال الممارسة التربوية، فهم لا ينظرون إلا للجوانب التي تهم ممارستهم اليومية، وهي عادة الجوانب البيداغوجية والديداكتيكية. وعلى مستوى أهداف الامتحان المهني، لا يكاد المتتبع يجد أي اهتمام سوى بالتغيرات المادية والادارية المحتملة للممتحن، لأن ما يكتبه ويعبر عنه في الامتحان لا يلقى الفرص الملائمة للتطبيق والتجريب، بسبب ضيق هوامش الحرية والإبداع حينا، وغياب المبادرة والتجديد حيناً آخر. فالكثيرون من الممتحنين لا يكتبون ما يكتبون عن إيمان وتجربة، ولكن بهاجس نفعي يستجيب لظرف الامتحان فقط. وهذا أيضاً يكشف بجلاء عن اختلال بين الوعي النظري والتجربة العملية، لتبقى المدرسة بعيدة عن تأثيرات المقروء، عصية على بلورة المعرفة النظرية المحققة بصدده، ويبقى معها الامتحان المهني إجراء غير مساهم في تطوير الفعل التربوي وتجديد آلياته، وهو وضع لا يستقيم والمعنى الذي من أجله كانت الامتحانات المهنية. إن الامتحان المهني يستوجب أن يكون من أولوياته البحث في انعكاساته على المردودية التربوية، حيث لا تكفي استفادة الممتحن مادياً وإدارياً كمؤشر على ما يملكه من مؤهلات وعلى الأثر المحتمل لذلك، بل ينبغي وبالضرورة أن يعقب ذلك تأثير إيجابي واضح على التلميذ، وهو ما لم تقم وزارة التربية الوطنية بقياسه يوماً لتقيس من خلاله قيمة الامتحان المهني. ولو قامت بذلك، لفوجئت بما لم يكن في الحسبان. ولعل هذا ما يجعل الكثير من أطر التربية شبيهين ببعضهم على مستوى تقدير أدائهم المهني، رغم ما بينهم من تباين على صعيد الدرجات والسلالم، إن الوضع الطبيعي هو أن يسأل الناجح عما فعل بنجاحه، كما ينبغي أن يسأل غير الناجح عن عدم نجاحه. أما المعنيون بالامتحان المهني، فتكاد خلفياتهم المعرفية أن لا تكون معياراً للتمييز بينهم، لأنهم متساوون على مستوى الترشح للامتحان وظروف اجتيازه، بل قد يتساوون في نتائجه في ظل سيادة قيم الفساد التي لا تميز بين الحق والباطل بين المستحق وصاحب الامتياز، فتضعف شروط المنافسة، بل ربما تضيع، خصوصاً وأن الكثيرين يجهلونها حين يعملون على مساعدة بعضهم على الإجابة عن أسئلة الامتحان، ناسين أن المناصب محدودة وأن أي امتياز يحققه البعث يكون بالضرورة على حساب الآخرين. وقد بدا للعيان وفي كل مناسبات الامتحان المهني أن نية الغش قائمة، وأن السكوت عليها من طرف الممتحنين تكريس لواقع الفساد واصطياد الفرص. وهذا ما لا تتحمل الوزارة وحدها مسؤوليته، بل ينبغي النهوض به من طرف الممتحنين أنفسهم. إن مظاهر الغش المتمثلة في حمل الكتب إلى حجرة الامتحان، والحديث العلني بين الممتحنين، وتغيير الأماكن المخصصة للجلوس، وعدم احترام لجن الحراسة، واستعمال الهاتف، والخروج أثناء الامتحان... بل إن عدم الاستعداد للامتحان والحضور لاجتيازه، كل ذلك يعتبر قيما منحطة تستوجب المحاسبة، وهو ما لم يتجرأ المسؤولون يوماً على القيام به. إن غش أستاذ في الامتحان مثلا لا ينبغي فقط أن يعالج بحرمانه من المشاركة لدورات معينة، إذ من شأن ذلك أن لا يقطع مع ظاهرة الغش كليا، لأنه لا يعكس التقدير الحقيقي لخطورة الفعل، فعلاجه الفعال لن يتم إلا باجتثاثه. لكن الأمر يتطلب نوعاً من الجرأة في القرار والموقف، ويتطلب قبل ذلك بحثاً وتدبراً في الأسباب الكامنة خلف هذا السلوك، اعتماداً على وسائل الرصد الممكنة، وعلى كشف كل العوامل المساهمة في إنتاج الظاهرة، وهو ما لم تقم الوزارة به يوماً ما، بل كثيراً ما حفظ الأمر وتم التعامل معه أمنياً، بعيداً عن كل أساليب الوقاية ودرء البلاء قبل وقوعه. وإذا كان بعض الممتحنين لا يتورعون في إرجاع ورقة الامتحان بيضاء إلا من اسم صاحبها، فإن لذلك تفاسير عدة، لعل أهمها هو عجزهم عن الإجابة عن الأسئلة بسبب صعوبتها حينا وعدم انطلاقها من تحديد دقيق لحاجات النظام التربوي الهادفة إلى التجديد والتغيير، ومواكبة متطلبات العصر، أو بجهل كلي للقضايا والظواهر المطلوب معالجتها في الامتحان حينا آخر، بسبب عدم الاستعداد الكافي له وفي غياب توجيه دقيق لما ينبغي إعداده. وفي كل الحالات تطرح الورقة البيضاء أسئلة حرجة على المسوولين عن الحرص على نجاح النظام التربوي، من بين ذلك ما هي التدابير التي تم اتخاذها لعلاج ظاهرة الأوراق البيضاء رغم قلتها، لماذا نقبل برهن مستويات كثيرة من أبنائنا بممارسات تعليمية ينقص المعنيين بها المهارة اللازمة، والتي كشفت عنها الامتحانات المهنية، في ظل المناداة بشعارات الدمقرطة والإنصاف واحترام حقوق الأطفال في تعليم حديث يستجيب لطموحات الأمة ومقتضيات العصر. إن الورقة البيضاء سبة في حق واقعنا التعليمي الذي يفضل الهروب إلى الأمام دون استنطاق حقيقي وواقعي للوضع المعرفي والبيداغوجي لكثير من مدرسينا. فالنتائج تستوجب القراءة والاستفادة منها في رسم استراتيجية لتجاوز سلبيات الواقع القائم، وكل سكوت عن ذلك لا يزيد الوضع إلا تأزماً واستفحالا. ويبقى شكل تنظيم هذا الامتحان غير بريء من العيوب، لأنه ليس منفصلا عن غيره من الاجراءات والتدابير. ففضلا عما يكلف من نفقات مادية وجهد بشري بسبب الكيفية التي ينجز بها، فإن افتقاده لكثير من مواصفات الوضوح والدقة والشفافية والعلمية يفتح الباب على مصراعيه للصدفة والمغامرة، وهما أمران مرفوضان في مجال التربية عموما وفي التقويم على وجه الخصوص، إذ ينبغي أن يكون الممتحن على علم بالجهات التي يتكلف بوضع الامتحان وبالجوانب التي ينصب عليها الامتحان، وبمن يعهد لهم بالتصحيح ومدى كفاءاتهم العلمية والبيداغوجية ومستوى تجديدهم التربوي، كما ينبغي له أن يطلع على الأجوبة وأسسها في ما بعد ليساهم في تقويم ذاته في جو من الحرص على احترام حقوقه في الاطلاع على ورقة الامتحان، إذا رغب في ذلك، وفي زمن مناسب درءاً لكل ما من شأنه أن يشكك في التصحيح برمته. ولعل ذلك كله هو ما يضفي على الامتحان المهني مصداقية ويحفز على الانخراط فيه بروح علمية محصنة بالأخلاق وعلى الحرص على التنافس الشريف، ليكون نظامنا التربوي هو الفائز في النهاية حقاً. وأخيراً يمكن القول، إن الامتحان المهني بشروطه القائمة أصبح محط نقد من قِبل الجميع، لكن لا أحد كانت له الجرأة ليقول، إن الأهداف النبيلة التي كان الامتحان المهني من أجلها في بلدنا أو في غيره من البلدان لا يعكسها واقع الحال، فهل سنظل قابلين لهذا الوضع خوفاً على عدم إجراء هذا الامتحان، أم أن التفكير في استفادة النظام التربوي والمجتمع من هذا الامتحان ليست شأناً مركزياً في العملية ولا هي شأناً عاما ومشتركاً، ولذلك فلا يلتفت إليها إلا فضولي يريد أن يقحم نفسه في ما لا يعنيه. وإلى أن تجد المسألة طريقها للحل لا يسعنا إلا أن نقول نفقات الامتحان المهني أكبر بكثير من مردوديته، فهل لنا أن نراجع الحسابات؟