حدث في ألمانيا منذ قرون خلت، لما كانت ألمانيا ملكية عبارة عن فسيفساء قبل أن يأتي بسمارك ويجمع شملها ويلم أطرافها. حدث أن شيد الملك قصره على ضفة نهر الراين، بمنطقة غابوية خلابة تأسر العيون وتسر الناظرين. وكان الملك شديد الإعجاب بالقصر، وكان يطل من إحدى شرفاته كل صباح ليرى النهر المنساب في مرقده، ويصيخ السمع لخرير المياه المتدفقة، وأغاريد الطيور ووشوشة صغارها في الأعشاش، وارتعاشة اعراش أشجار البساتين التي تغطي المكان وهسيس الثعابين الزاحفة بين الأعشاب. وكان في كل مرة يفعل ذلك يصطدم ناظره بكوخ من قش وطين، بني على الضفة الأخرى للنهر، وكان في ملكية رجل مسن بلغ من الكبر عتيا. وحتى يخلو وجه الطبيعة من كل شائبة، وحتى تصفو عين الملك من كل ما من شأنه أن يعكر صفو المنظر، فقد تساءل في حالة غضب عمن يكون هذا الذي تجرأ بوضع كوخ وضيع قبالة قصره. فأخبروه أن المعني بالأمر رجل طاعن في السن، بناه فوق تراب قطعة أرضية تعود ملكيتها لأجداده. فقال الملك :ائتوني به. فلما دخل عليه العجوز، ومثل بين يديه، قال له الملك: إني أطلب منك أن تهدم الكوخ، وسنعيد لك بناءه في مكان قصي آخر، وبكيفية أجمل مما هو عليه الآن. ضحك العجوز، وقال: لا يا مولاي، فالكوخ الذي تتحدث عنه به فراشي الذي استلقي فوقه كلما اسودت الدنيا في عيني، أو انتابتني نزوة فرح عابر، وفوق ترابه تدحرج أسلافي، ولا أكتم مولاي سرا إن قلت: إني مشدود إليه ومسكون به. قال الملك : إذا أنت مطالب بأن تبيعنا الأرض والكوخ. قال العجوز : لا، لا أبيعه، لأنه لا ثمن له. حينها قام الملك من مقامه، وصرخ في من تحلق حوله من الخدم : إذا سنعمل على هدم الكوخ وتطهير المكان منه. حملق الشيخ في وجه الملك دون أن يرف له جفن، وقال بصوت هامس خفيض صادر من ينابيع الروح: بإمكان مولاي أن يفعل لو لم يكن بألمانيا عدل وقضاة. وهكذا احتفظت ألمانيا على مر العصور بالقصر والكوخ المقابل له، وحولتهما إلى مزارة دالة على سيادة وهيبة وعزة القضاء في ألمانيا .