{ يبدو أن حرية الإعلام في سياقنا المغربي المعاصر تشكل حقا معضلة، فهي ترتبط بشكل مباشر بحرية التعبير وبصيغة ممارستها، حتى أن هناك سجالا ضمنيا تعلن عنه الوقائع اليومية من اعتقالات ومتابعات وتوقيفات ومطالب حول ما إذا كانت هذه الحرية حقا مطلقا أم مقيدا؟ إن المعايير الدولية لحقوق الإنسان أقامت نوعا من التمييز بين الحقوق المطلقة والحقوق المقيدة بالقانون، فالحريات العامة التي يتمتع بها المواطن في المجتمع بشكل فردي أو جماعي ليست حقوقا مطلقة، كما هو الشأن بالنسبة لحقوق الإنسان المتأصلة في الكائن البشري كالحق في الحياة والحرية والسلامة الجسدية والكرامة الإنسانية. فالمعايير الدولية لحقوق الإنسان شملت الحقوق المتأصلة في الكائن البشري بالحماية المطلقة مثل مناهضة جريمة التعذيب وتجريم الاعتقال التعسفي وتجريم الإعدام خارج القانون وتجريم التمييز بسبب الدين أو اللغة والعرق أو الجنس، في حين أنها قامت بتنظيم مجالات حرية التعبير والرأي والصحافة بوضع مجموعة من الضوابط التي تروم العدالة الاجتماعية والنظام العام والأخلاق العامة. والتحفظ الوارد في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يؤكد بأن حرية التعبير ليست حقا مطلقا ومحددة بنص القانون، حيث أنها تقيد باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم. { ربما ذلك ما يوضع تحت مطلب تقييد الحرية بالمسؤولية .. إذا كان دور الإعلام يتجسد في ممارسة الرسالة النبيلة في نقل المعلومات وتفعيل وإعمال الحق في الخبر، فهو يقتضي أيضا احترام مجموعة من الضوابط القانونية والقيم الأخلاقية لحماية الحق في الحياة الخاصة وتجريم جميع أشكال القذف والإشاعة. وعلينا أن نتصور صدق أولى عبارات مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بترسيخ فكرة كونية الكرامة الإنسانية «يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بروح الإخاء»، فضرورة احترام ضوابط أخلاقيات المهنة ترتبط بحماية الحق في الكرامة الإنسانية المتأصلة في الكائن البشري كمبدأ يسمو على الخصوصيات الديونتولوجية والثقافية لأي مجتمع كيفما كان نوعه. ومن جانب آخر، فالمعايير الدولية اعتبرت أن حرية الصحافة لا يجب أن تنحصر في حق الصحفي في التعبير والرأي فحسب، وإنما تشمل أيضا حق تلقي ونقل المعلومات إلى المواطنين، لذلك ينطوي الحق في الخبر على بعدين أساسيين أحدهما فردي والآخر جماعي. فالحق في الخبر وتلقي المعلومات هو حق لكل مواطن بشكل فردي يتفاعل مع حرية الفكر والضمير والرأي والمشاركة الفعالة في التنمية السياسية والاقتصادية للبلد. إضافة إلى ذلك، فالحق في الخبر هو حق جماعي يساهم في تشكيل الرأي العام ويسمح للمجتمع في الحصول على المعلومات الكافية عند ممارسة خياراته وممارسة نوع من الرقابة على مؤسسات الدولة في إطار المشاركة في إدارة الشؤون العامة للبلد. { هناك رهانات متقابلة تدخل في هذا الباب تتواجه فيها مطالب متباينة ولو ظاهريا، كحماية حرية التعبير وفي نفس الوقت حماية الحياة الخاصة وكرامة الناس من أي تطاول قد يمسهما، ووضع حد لتدخل الدولة في حق الصحفيين وحريتهم وفي ذات الوقت تقييد ممارستهم لهذه الحرية وضبطها قانونيا .. التطور الذي عرفه مجال الحماية الدولية لحقوق الإنسان أخرج العلاقة التي تجمع الدولة والإعلام من مجال السيادة المطلقة إلى مجال تقنين المسؤولية القانونية في مجال نشر المعلومات، حيث تم تقييد حرية تصرف مؤسسات الدولة مع الإعلام من أجل تطبيق المعايير الدولية، ومن جهة أخرى تم وضع ضوابط قانونية وقيم أخلاقية لتقييد حرية الإعلام وترشيد العمل الصحفي بالالتزام بالتحري والتقصي قبل نشر الخبر وحماية الحياة الخاصة للأفراد وكرامتهم الإنسانية. ولعل مشروع مدونة الصحافة والصحفيين المهنيين رقم 07 - 15 يأخذ بعين الاعتبار جسامة الضوابط القانونية والقيم الأخلاقية المتعلقة بإعمال الحق في الخبر ونقل المعلومات، حينما يحدد تعريفا دقيقا للصحافة في المادة 1 الفقرة 1 على أنها «مهنة جمع الحقائق والمعلومات والأخبار قصد كتابة التعاليق والتحليلات وتحري المادة الإعلامية إما بواسطة الكتابة أو الصورة أو الرسم أو الصوت أو وسيلة أخرى، كيفما كانت الدعامة المستعملة لنشرها». إضافة إلى أنه يميز الصحفي المهني عن باقي الممارسين في الحقل الصحفي في الفقرة 6 «باعتباره كل شخص يزاول مهنته وفق مقتضيات الفقرة 1، بصورة رئيسية ومنتظمة ومؤدى عنها، في واحدة أو أكثر من منشآت الصحافة المكتوبة أو الإلكترونية أو السمعية البصرية أو وكالات الأنباء عمومية كانت أو خاصة الموجود مقرها الرئيسي بالمغرب». { لكن ماذا عن الضمانات القانونية لممارسة حرية الصحافة ؟ ترتبط حرية الصحافة بضمانات وردت في العديد من المواثيق الدولية والإقليمية أهمها: - المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود». - المادة 19 من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية: «لكل فرد الحق في حرية التعبير وهذا الحق يشمل حرية البحث عن المعلومات أو الأفكار من أي نوع واستلامها ونقلها بغض النظر عن الحدود، وذلك إما شفاهة أو كتابة أو طباعة وسواء كان ذلك في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها». - المادة 32 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان: «يضمن هذا الميثاق الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير وكذلك الحق في استيقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخر بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود الجغرافية، وتمارس هذه الحقوق والحريات في إطار المقومات الأساسية للمجتمع ولا تخضع إلا للقيود التي يفرضها احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحافة العامة أو الآداب العامة». { ووطنيا هل تستند هذه الضمانات إن وجدت إلى المرجعية الدولية ؟ الدستور المغربي يؤكد في الفصل التاسع بشكل صريح بأنه يضمن لجميع المواطنين: حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع. إن مرجعية الدستور تمثل دعامة أساسية لحرية الصحافة على المستوى الوطني، وتشكل تعبيرا قويا عن البعد الكوني لحرية التعبير، لأن الدولة تتعهد وتضع على عاتقها في ديباجة الدستور التزامات دولية مرتبطة بضمان الاحترام العالمي لحقوق الإنسان. ولعل مكانة منظومة حقوق الإنسان في النسق السياسي المغربي المعاصر هي التي دفعت بالدولة المغربية إلى تعزيز ضمانات احترام حقوق الإنسان من خلال أول دستور للمملكة عام 1962 ومن خلال مراجعة دستور عامي 1992 و1996 حيث نصت الديباجة على «تشبت المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا». إن تأكيد دستور 17 أكتوبر لعام 1996 في ديباجته على تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما عي متعارف عليها عالميا، هو بمثابة اعتراف صريح بالتزاماتها بإعمال المقتضيات الواردة في الاتفاقيات والصكوك الدولية المتعلقة بحماية حرية الصحافة وبأنها تشكل جزءا لا يتجزأ من التشريع المغربي. فالتنصيص على التعهد باحترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا في ديباجة الدستور يكتسي قيمة قانونية خاصة، ويحمل بين طياته دلالات عميقة من حيث الترتيب الدستوري. فبعد تحديد الديباجة لهوية الدولة، تؤكد على تأصيل التزامات الدولة بالتعهد باحترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتعتبر أن حماية الحريات الأساسية بمفهومها الكوني هي أحد العناصر التي تندرج في مقومات هوية الدولة المغربية والثوابت التي يقوم عليها النظام السياسي المغربي، كما هو الشأن، بالنسبة للدعامات الأخرى كالإسلام والملكية الدستورية والوحدة الترابية. { هل معنى ذلك أن مجال العلاقة بين الدولة والصحافة واضح بموجب التنصيص المشار إليه؟ مجال العلاقة الثنائية التي تجمع الدولة المغربية بحرية الصحافة تستمد مرجعية أحكامها من الإطار العالمي لحقوق الإنسان، والتي على أساسها انتقلت حرية الصحافة من الشؤون الداخلية المرتبطة بالمجال المحفوظ للدولة، لتنصهر وتندمج في الالتزامات المتعلقة باحترام المعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان. وإن حاولنا تحليل عبارة «حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا الواردة في ديباجة الدستور، فسنجد أنها تعكس بشكل جلي كونية المبادئ الدولية لحرية الصحافة، على أساس أن مبادئ حرية التعبير والرأي والتماس المعلومات ونقل الخبر هي ثابتة المضمون وتحمل نفس المقتضيات والدلالات ولا تختلف من دولة إلى أخرى، وبالتالي لا يجب أن تتأثر بالأنظمة السياسية أو نمط الحكم، حتى لا يتم مصادرتها على نحو تعسفي أو غير قانوني قد يؤدي إلى حرمان المواطن من الحق في الخبر والتوصل بالمعلومات . (يتبع)