يقول الأخ الطيب منشد في الحلقة 31 في سياق حديثه عن الحزب في مشاركة حكومة ادريس جطو سنة 2002، وعن المنهجية الديمقراطية: «جاءت انتخابات 2002 ووضع الناخبون الاتحاد الاشتراكي في مقدمة الاحزاب المنافسة، ولو بأغلبية بسيطة.... فرسالة الناخبين تفيد دعم قيادة الاتحاد للتجربة قصد استكمال أوراش الاصلاح المفتوحة، وهي إشارة فاصلة في مواجهة كل المشككين في نجاح هذه التجربة، لكن التراجع عما أسميناه في الاتحاد بالخروج عن المنهجية الديمقراطية، بمعنى تعيين وزير أول من خارج الأغلبية لرئاسة الحكومة.... خلق وضعا سياسيا جديدا داخل الحزب، وترقبا كبيرا لدى الرأي العام ولدى المتتبعين الوطنيين والدوليين، وحظي بيان المكتب السياسي في الموضوع برضى غالبية الاتحاديات والاتحاديين، وإعجاب الملاحظين والمتتبعين، ولو أنه لم يرق حلفاءنا في الكتلة والأغلبية». الخروج عن المنهجية الديمقراطية مصطلح من المصطلحات التي أبدعها القاموس السياسي الاتحادي، ينضاف الى مصطلحات أخرى، مثل: أحزاب الكوكوت مينوت والاستحقاقات السياسية، وهو مصطلح جاء به بيان المكتب السياسي عقب تعيين ادريس جطو وزيرا أول، بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2002. البيان الذي يمكن اعتباره وقفة تصحيحية للمسلسل الديمقراطي ببلادنا، لما خلفه من آثار إيجابية لدى المناضلين داخل الحزب، ولدى المواطنين عموما. ولو تم استطلاع للرأي عن مدى تعاطف المغاربة مع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في ذلك الاسبوع الذي صدر فيه بيان الخروج عن المنهجية الديمقراطية، لوجدنا نسبة التعاطف قد تضاعفت عما كانت عليه قبل صدور البيان. لقد سجل حزبنا موقفا تاريخيا تميز به وحده في المشهد السياسي المغربي، وهي ميزة الشجاعة السياسية والجرأة الأدبية التي يتميز بها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية دون غيره من الاحزاب المغربية، بدءا من موقفه سنة 1981 من قضية الاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية، الذي كان بطله المرحوم القائد عبد الرحيم بوعبيد، ومرورا بموقف فريق المعارضة الاتحادية بالبرلمان من زيادة سنتين للفترة التشريعية لسنة 1977، وانتهاء ببيان الخروج عن المنهجية الديمقراطية، وغير ذلك من المواقف التي صدرت عن حزبنا من قبل ومن بعد في عدة محطات بجرأة وشجاعة، لا يسمح المجال باستعراضها هنا. اجتمعت اللجنة المركزية بأكثرية أعضائها بالقاعة الكبرى لنادي وزارة الأشغال العمومية بالرياض بالرباط، وكل أعضائها حماس للدفاع عن موقف المكتب السياسي الذي سجله في بيانه، وكان النقاش رفيع المستوى، ونظيف العبارات، يصب في عمق المرحلة السياسية التي كانت تمر بها بلادنا، لكن الذي كان يسبح ضد التيار، ويتكلم في غير ذي موضوع، ويحيا خارج زمانه، هو المكتب السياسي نفسه، بدءا من كاتبه الأول ونائبه. المكتب السياسي الذي تنكر لبيانه، وانقلب على نفسه، وأنكر موقفه، وأطفأ جمرة الحماس في نفوس المناضلين، وقوض شعلة النضال السياسي في أعضاء اللجنة المركزية، ولدى جميع الاتحاديين والمتعاطفين. لقد حاول الكاتب الاول الاخ عبد الرحمان اليوسفي جاهدا إقناع اللجنة المركزية بأن لا تحدد موقفها من مسألة المشاركة أو عدمه في الحكومة، وأن تفوض للمكتب السياسي ليتخذ الموقف المناسب بناء على العرض الذي سيقدمه الوزير الاول المعين، لكن الاغلبية الساحقة للجنة المركزية لم تقتنع، وظلت أغلبية المتدخلين يؤكدون على وجوب الحسم في الموضوع، متشبثين بمضمون بيان المكتب السياسي، الذي يعتبر تعيين ادريس جطو خروجا عن المنهجية الديمقراطية، وبالتالي فالنتيجة الحتمية هي عدم مشاركة الاتحاد الاشتراكي في هذه الحكومة، بل إن تعيين ادريس جطو يمكن اعتباره تراجعا عن الاتفاق السياسي الذي وقع بين المرحوم الحسن الثاني وبين عبد الرحمان اليوسفي، والذي أدى في النهاية الى تعيين هذا الأخير وزيرا أول. ويجدر التذكير هنا أن بعض الاحزاب وكذلك بعض وسائل الاعلام في هذه الفترة، كانت تبرر تعيين وزير أول من خارج الاغلبية، نتيجة الصراع والتراشق الاعلاميين بين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي حول أحقية منصب الوزير الاول. والحقيقة ان ذلك مجرد افتراء، وتلبيس الحق بالباطل، والباطل بالحق، لأن هذا الصراع أو التراشق الاعلامي مشروع وعاد، حتى في البلدان الديمقراطية، وليس في ذلك أي عيب، بل هو من صميم الممارسة الديمقراطية، وتحضرني بالمناسبة الانتخابات التشريعية الألمانية، التي انتهت ليس فقط بالصراع بين زعيمة اليمين وزعيم اليسار حول أحقية أحدهما في منصب الوزير الاول، بل تجاوز ذلك الى السب العلني والقذف والتشهير في وسائل الاعلام. وإصدار الاحكام القطعية والمسبقة المصحوبة بالتهديد بعدم قبول أي منهما التحالف مع الآخر، وظل كل منهما يدعي أحقيته في منصب الوزير الاول، لأن الفرق في عدد المقاعد البرلمانية بينهما كان ضئيلا،وكان الحكم الفاصل في النهاية بيد رئيس الدولة مستشار الفيدرالية الألمانية، حيث عين زعيمة اليمين وزيرة أولى،و التي أحرز حزبها على المرتبة الاولى في الانتخابات، واضطر زعيم اليسار إلى التحالف معها في حكومة واحدة ،ولم يقل لهما أحد تراشقتها أو تشاتمتها... إلخ. إن الديمقراطية ثقافة وممارسة وسلوك واحترام قواعد المنهجية. لقد أخلف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية موعده مع التاريخ، عندما تراجع عن موقف المنهجية الديمقراطية، وفضل مشاركته في حكومة سنة 2002، لم يكن أي مبرر من المبررات التي قدمها المكتب السياسي، ودافع عنها الكاتب الاول ونائبه من أجل التراجع عن المنهجية الديمقراطية مقنعا، لذلك فوضت اللجنة المركزية للمكتب السياسي في اتخاذ القرار المناسب، وهي على مضض وإحباط، فجاء تفويضها تحت الضغط والإكراه، ولا برضى واختيار واقتناع، بل يمكن أن أؤكد أن أغلبية اللجنة المركزية تنبأت يومها بما سيؤول إليه الحزب في الانتخابات التشريعية المقبلة لسنة 2007، واستشعرت ان الهزيمة آتية لا مفر منها، فأين الحس السياسي لدى قادتنا؟ وأين حدس الأذكياء وتوقعات المحللين؟ وأين حكمة الزعماء لاستشراف المستقبل؟ هل كان أعضاء اللجنة المركزية أكثر وعيا وحسا وذكاء وحكمة من الكاتب الاول الاخ عبد الرحمان اليوسفي ونائبه الاخ محمد اليازغي ومن كافة أعضاء المكتب السياسي الذي لم يستطع أن يفرمل هذه الهرولة؟ إن الزمان أجاب عن ذلك بالإيجاب وأكده. لقد كنا في حاجة الى زعامة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، ليتمسك بمضمون بيان المكتب السياسي الداعي الى ضرورة احترام المنهجية الديمقراطية الى النهاية، كما تشبث رحمه الله ببلاغ المكتب السياسي سنة 1981 حول الاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية وهو أمام المحكمة، يدافع عن البلاغ ومضمونه. لقد كان الاخ عبد الرحمان اليوسفي على موعد مع التاريخ، ولكنه أخلف هذا الموعد، عندما تراجع عن مضمون البيان، فأدى ثمن ذلك بانسحابه من المشهد السياسي بهدوء وبرودة، في وقت كان الحزب والبلاد في أمس الحاجة إليه. ويمكن القول أن التقهقر الذي عرفه الحزب في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، حيث انحدر من الرتبة الاولى إلى الرتبة الخامسة، وان المشاكل التنظيمية التي يعاني منها بداخله، وأن فقدانه لكاتبين أوليين بالتتابع، كل ذلك له علاقة مباشرة بتراجع المكتب السياسي عن المنهجية الديمقراطية وقبوله المشاركة في الحكومة. فلو تمسك بموقفه واختار المعارضة وهو على صواب لكان موقعه أقوى في استحقاقات 2007 و2009، ولحافظ الناخبون على رتبته الأولى، بل لتعزز عدد المقاعد التي يمكن أن يحرز عليها. والأهم من ذلك أن المغرب سيكون هو الرابح الأكبر، لأن المواطن ستزداد ثقته في الممارسة السياسية، وفي صناديق الاقتراع ويتأكد له بالملموس، أن هناك أحزابا ديمقراطية بالفعل، أخذت على عاتقها واجب الدفاع على الديمقراطية ليس على مستوى الخطاب فقط، بل أيضا على مستوى المنهجية والسلوك والممارسة، ولما كانت نسبة مشاركة الناخبين في الاقتراع متدنية الى أقل من الثلث.