باريس- محمد المزديوي:حين اقترف البعض «جنحة» المزج بين الأجناس الأدبية، أو كتابة هذا النص العابر للأجناس، هذا النص «الخلاسي» المفتوح ثارت ثائرة حراس المعبد التقليدي، وهو ديدنهم في الدفاع عن كل ما هو تقليدي، أي ما اكتسب نوعا من «القداسة»، في كل الثقافات والأعراق. لم يكن كثيرون، من الذين ثارت ثائرتهم، بسبب نزوعهم الطهراني، يعرفون أن الأمر ربما له علاقة بتراجع كثير من الأجناس الأدبية التقليدية والكلاسيكية في زحمة الاكتشافات وسيادة عصر التلفاز والإنترنت وغيرها من الاكتشافات التي لا تتوقف والتي تشي بماض ربما سيكون أسود على الكتاب إلا إذا لطف الله. الرواية، هذا الاكتشاف الغربي الهائل، الذي أسست له رواية «دون كيشوت» العظيمة، باعتراف كارلوس فوينتس وميلان كونديرا وآخرين، أصيبت، في تجلياتها الكلاسيكية، بنوع من الخمول، مما استدعى ظهور ما يسمى «الرواية الجديدة»، وخصوصا في فرنسا. ولكن يبدو أن هذه الجدة لم تكن كافية لاستعادة هذا الجنس الأدبي عافيته. والأمر نفسه ينطبق على الشعر أيضا، الذي عرف تطورات كبيرة، اعتقد كثيرون أن روحه قد انخلعت. وطال المسرح ما أصاب الأجناس الأخرى، فكان أن انفتح على أشكال تعبيرية أخرى وثقافات أخرى، حتى يتجدد ويواصل الحياة. ومن هنا جاءت الحاجة إلى البحث عن أجناس جديدة، البعض منها كان مغمورا ونفخت فيه الحياة والأخرى تم نحتها، حتى يتم استدراج القارئ لمعانقة الكتاب، الصديق الأبدي والوفي، كما كان يقال. وقد ابتكرت دار «نيل» (NIL) الفرنسية سلسلة أدبية جديدة أطلقت عليها اسم «المتحررون» (Les affranchise)، بغرض حث الكتاب على الكتابة في نوع كتابي جديد، يمكن أن يكون تنويعا على كتاباتهم ويساعد القارئ على التقرب من أجواء المؤلفين وحميمياتهم. وليس الأمر بغريب، خصوصا حين نرى الإقبال المتزايد في الغرب على أدب المراسلات والرحلات والسير الذاتية والبيوغرافيات.. إلخ. وتقترح الدار على كتابها تأليف «رسالة لم يكتبوها قط من قبل».. وهي طريقة من أجل «التحرر» من قصة أو حادثة أثرت على حياتهم، وذلك باستثمار «جنس الرسالة» والتوجه، مباشرة إلى المرسل إليه، الذي غالبا ما يكون مجهولا من قبل القارئ، لكنه يفرض نفسه في القصة. وقد دشنت الروائية الفرنسية الكبيرة آني إيرنو هذه السلسلة، التي تصورتها وتديرها كلير ديبرو Claire Debru، من خلال نصها اللافت: «الفتاة الأخرى»، وهي رسالة حارقة تتوجه إلى أختها التي رحلت قبل أن ترى الروائية النور. وترى آني إيرنو في موت أختها غيابا قسريا، أو رغبة إيثارية من الراحلة في إفساح المجال لها كي تعيش. والكتاب الثاني، «فانسان» Vincennes، من تأليف الروائي برونو تيساريتش Bruno Tessarech، وهو عبارة عن رسالة يوجهها إلى جامعة فانسان، التي أصبحت في ما بعد جامعة باريس الثامنة، وهي عبارة عن تحية حارة لهذه الجامعة المتميزة التي «فتحت أبوابها لفلاسفة وعلماء اجتماع مهمين، قالبين الأعراف والقوانين رأسا على عقب، وحاملين معهم المؤلف في دوامة حددت مستقبله المهني كله». كما أن الروائية ليندا لي Linda Le شاركت في هذه السلسلة من خلال رسالة حملت عنوان: «إلى الابن الذي لن أنجبه»، وهو نص «أوتوبيوغرافي» (سيرة) فيه كثير من القسوة والصراحة التي تدفع امرأة في سن مبكرة إلى اتخاذ القرار بعدم الإنجاب «اختارت الأدب والكتابة على تربية الأبناء!».. وقد منح الكتاب لصاحبته جائزة «رونودو» لكتاب الجيب لسنة 2011. وقد عرفت السلسلة نجاحا كبيرا بسبب الأسماء الوازنة المشاركة وأيضا بسبب طرافة الموضوع. من أجواء كتاب برونو تيساريتش، «فانسان»، أو ما بات يدعى جامعة «باريس الثامنة»: «أنت موجودة، دائما، على طريقتك، في مكان لا مادي ورشيق ولكنه لا يقل واقعية. وأنا أهيئ الظرف البريدي، قبل قليل، وأكتب عنوانك، رأيت أنه يشكل كلمة واحدة مع اسمك؛ الكتابة إليك تعني الكتابة إلى (فانسان)، بكل بساطة. لا أثر تبقى منك، ولكن غيابك حصل على قيمة الخلود. (...) ستظلين إمبراطورية الفكر السائرة التي لن يسقط عليها الليل أبدا، والتي ستظل صورتها وقوتها وذكراها، صافية، في دواخلنا جميعا. أنت منارتنا. قرأت في مكان ما أن كاتبا عجوزا ساخطا ورجعيا، مارسيل جوهاندو، رأى مرة متظاهري انتفاضة مايو (أيار) 1968 يمرون من تحت نوافذ بيته، فوجه إليهم هذا التحذير الرهيب: (ستنتهون جميعا موثقين)! لقد كان على صواب، بصفة عامة، مثل كل الذين اعتقدوا، منذ الأزل، اكتشاف هذه الحقيقة العميقة، وهي أنه في غياب الحكمة، يحمل تقادم العمر نصيبه من الاستسلام والتلاؤم مع الواقع. ولكن في ما يخصك، أنت، فهو لم ير شيئا. إن دولوز وليوتارد وشاتليه وفوكو وريبيريوكس ولاباساد وآخرين لا يبيعون أبدا أنفسهم للشيطان. لم يصبحوا موثقين ولا موظفين كبارا حاملين ألقابا. لقد ماتوا واقفين، وهم يواصلون الاحتجاج». (ص78 - 79).