إذا كان التطور الطبيعي للأمم والشعوب، يفترض تقدمها في مجالات الحياة المدنية، بما في ذلك مجال الحريات والحقوق، لكن يبدو أن المجتمعات المعاصرة، تمضي عكس قوانين الطبيعة، حيث يلاحظ المتتبع في السنوات الأخيرة، ردة عالمية في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك الدول الغربية التي ظلت إلى عهد قريب تنصب نفسها حامية لها داخليا، ومدافعة عنها خارجيا، وهناك عدة أسباب لهذه التراجعات الحقوقية، أهمها الأزمات السياسية والاقتصادية، والصراعات والحروب التي طبعت العلاقات الدولية، وخاصة الحرب على الإرهاب، التي وجدت فيها كثير من الدول والأنظمة السياسية، ورقة التوت التي تغطي بها تجاوزاتها الحقوقية، ولا سيما في ذلك الدول العربية، التي شهدت اضطرابات سياسية، أدت إلى وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بعد فشل عدد من الدول العربية في الانتقال نحو الديمقراطية. وفي هذا السياق، لم يكن المغرب بعيدا عن هذه التراجعات الحقوقية، وفي وقت كان ينتظر فيه المغاربة انفراج الأوضاع السياسية والاجتماعية، دخلت البلاد مرحلة من التراجعات في مجال الحريات العامة والخاصة، وخاصة التضييق على حريات التظاهر والتجمع، وحريات التعبير والرأي، وكانت أسوء التراجعات التي شهدها المغرب في المجال الحقوقي، هي الذي طالت حرية الصحافة، وخاصة “الصحافة المستقلة”، التي أصبحت تعاني من التضييق والحصار، سواء عن طريق تجفيف منابعها المالية (الإشهار)، أو ملاحقة عدد من الصحفيين الذين يغرّدون خارج سرب السلطة، بتهم جنائية، ذات طابع أخلاقي، آخرهم الصحفية هاجر الريسوني، التي تم اعتقالها ومتابعتها بتهم الفساد والإجهاض، ما أثار حملة تضامن معها على المستوى الوطني والدولي. وقد خلّف هذا الاعتقال للصحفية ب”أخبار اليوم”، ومتابعتها بمقتضى القانون الجنائي، حالة من التدمر داخل الجسم الصحفي والحقوقي، والقلق من التضييق المستمر لهامش الحريات في الفترة الأخيرة، وما يعزز هذا الاعتقاد، هو أن الصحفية المذكورة، لم تكن معروفة بانتقاداتها الشديدة للسلطة، ولا بمواقفها وآرائها المعارضة للنظام السياسي، حتى يتم استهداف حياتها الخاصة بهذه الطريقة، واعتماد نفس أسلوب التشهير، المعتمد في تصفية الحساب مع المعارضين السياسيين، سواء كانوا محسوبين على اليسار أو الإسلاميين، ويبدو أن هذا هو سبب التضامن الواسع معها، من طرف مختلف الأطياف السياسية والحقوقية والفكرية، وقد عرفت قضيتها متابعة إعلامية مكثفة على المستوى الوطني والدولي، وطالبت عدة منظمات حقوقية محلية وأممية بإطلاق سراحها، كما عبّرت كثير من الشخصيات السياسية والإعلامية والثقافية، عن رفضها الزج بالصحفية في ملف يتعلق بحريتها الشخصية، لأجل المس بسمعتها، عن طريق تسخير صحافة التشهير. لكن في المقابل، ركبت بعض النخب العلمانية على قضية الصحفية هاجر الريسوني، من أجل إعادة طرح مسألة “الحريات الفردية” على مستوى النقاش العمومي، مستغلة في ذلك، تعاطف قطاع واسع من المجتمع مع قضيتها، لتقديمها كضحية للقوانين المتجاوزة المنتهكة للحياة الخاصة للأفراد، وتقديمها كدليل على الحاجة الماسة لتعديل تلك القوانين، وإقرار “الحريات الفردية” كما هو متعارف عليها دوليا، خاصة في مواجهة التيار المحافظ، الذي يعتبر مفهوم “الحريات الفردية” كما يطالب به العلمانيون، يتعارض جذريا مع الإسلام. وهذا التوظيف السياسي لقضية حقوقية بامتياز، يكشف عن انتهازية هذه النخب، وعجزها عن طرح مطالبها “الإيديولوجية”، بعيدا عن الاستغلال السياسي للقضايا الحقوقية المعروضة على أنظار القضاء، من أجل حشد الدعم المجتمعي، بهدف الاعتراف الرسمي بما يسمى “الحريات الفردية”، وإلغاء تجريم الممارسات غير الأخلاقية، مثل العلاقات الجنسية الرضائية(الزنا) والشذوذ الجنسي والإجهاض والإفطار العلني في رمضان… وإذا كانت قضية الصحفية هاجر الريسوني، قد عرفت شبه إجماع وطني على مظلوميتها، فإنها تطرح جملة من الأسئلة الملحة: لماذا تم استهداف صحفية معروفة باعتدالها؟ هل لذلك علاقة بنسبها العائلي؟ أم بانتمائها لأسرة تحرير يومية “أخبار اليومية” المغضوب عليها؟ أم بسبب تغطيتها لحراك الريف كما ذهب إلى ذلك البعض؟ وخلاصة القول، إذا كانت هناك فعلا حاجة ماسة لتعديل القوانين المجرمة للإجهاض وللعلاقات خارج إطار الزواج، لمواكبة التطورات المجتمعية، فهذا يحتاج إلى فتح نقاش عميق وهادئ، بعيدا عن التجاذبات السياسية والإيديولوجية، يشارك فيه الفقهاء والخبراء والمختصون في علم الاجتماع وعلم النفس، للبحث عن حلول عملية، للمشاكل والصعوبات التي تطرحها بعض الفصول والمواد في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية في علاقة بالحريات، على نحو يضمن عدم فتح الباب أمام الممارسات اللاأخلاقية، وفي نفس الوقت، يمنع السلطة من التدخل تعسفيا في الحياة الخاصة للأفراد.