إن تطور الأزمة في الشرق الأوسط ليس مجرد سلسلة من الأحداث المتفرقة ، بل جزء من إستراتيجية مترسخة تقوم على استغلال موازين القوى لفرض واقع جديد ، يتم تكريسه عبر سياسة الأمر الواقع والتفاوض من موقع القوة . لقد توسعت إسرائيل ، بقوة السلاح ، ماضية في مشروعها الاستيطاني منذ أكثر من سبعين عاما ، مستفيدة من دعم قوى عالمية كبرى على رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية لدعم مسارها وتبرر أعمالها العسكرية التوسعية، رغم ما تحمله من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان ولقواعد القانون الدولي . إن كل مرحلة من هذا التوسع تتبع بخطاب يدعو العدو إلى "التعقل" ، ويعرض مبدأ "المفاوضات" كخيار وحيد، غير أن هذا النهج الصهيوني، ليس سوى حيلة لترسيخ ما تم الاستيلاء عليه، والانتقال إلى الخطوة التالية بأقل تكلفة ممكنة. ليصبح التوسع والاحتلال الجديد ، أساسا جديدا للتفاوض ، ومنطلقا لتوسعات مستقبلية ، في تجاهل تام للجرائم التي سبقت ، وكأنها أصبحت أمرا واقعا لا رجعة فيه. إن هذا النهج الإسرائيلي ، لا يهدف إلى تحقيق تسوية عادلة ، بقدر ما يسعى إلى اختبار مدى تسامح العالم مع كل عدوان جديد ، وتحليل مدى القدرة على الدفع بالمزيد من الانتهاكات ، تحت غطاء الخطابات الدبلوماسية والمفاوضات الشكلية . خاصة أن الشرق الأوسط اليوم ، يشهد تحولات جوهرية في موازين القوى، حيث لم يعد الاحتلال الإسرائيلي قادرا على فرض شروطه دون مواجهة ، ولم تعد المقاومة الفلسطينية و بمختلف أشكالها ، مجرد ردود فعل معزولة ، بل أصبحت قوة حقيقية تفرض نفسها في المعادلة الإقليمية . فالأحداث الأخيرة أثبتت أن هناك إرادة جديدة ترفض الرضوخ للمنطق القديم ، وتؤكد أن الاحتلال مهما تمادى في عدوانه ، لن يكون قادرا على تحقيق الأمن المطلق الذي يسعى إليه ، لأن الشعوب التي تسلب حقوقها لا يمكن أن تقبل العيش في ظل الأمر الواقع المفروض بالقوة . و أن أي تسوية حقيقية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، يجب أن تكون قائمة على العدل ، وليس على حساب ميزان القوة العسكري أو دعم القوى الكبرى لمصالحها . فالتاريخ أثبت أن الحلول التي تحتوي في طياتها بذور صراعات جديدة ، لا يمكنها أن تصمد ، بل تؤدي في النهاية إلى المزيد من العنف وعدم الاستقرار. ختاما ، الأمر الذي لم يدركه العالم اليوم، وفي مختلف مناطق النزاعات الدولية ، أن تجاهل جذور الأزمة الحقيقية لا يؤدي إلا إلى تعميقها ، وأن دائرة الدماء ستظل تدور ، لتعيد تذكير الجميع بأن القضايا العادلة لا تدفن بالمفاوضات المشروطة ، ولا بالتسويات التي تكرس الظلم وقهر الشعوب . ذ/الحسين بكار السباعي محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.