مهزلة اعتقال الكاتب والمثقف الجزائري بوعلام صنصال وهو في أرذل العمر توضح مدى الجنون الذي أصاب النظام الجزائري. من غير المعقول أن يكون جزاء هذا المثقف الذي أسهم طويلا في التعريف بالجزائر وربط جسور التواصل الثقافي مع فرنسا والغرب عموما، هو السجن والمحاكمة المذلّة فقط لأنه تجرأ على انتقاد النظام العسكري، وكشف عيوبه التي يعرفها الجميع، وتسليط الضوء على حقيقة تاريخية صارخة. وجريمة التنكيل التي نتحدث عنها اليوم لم تكن حدثا طارئا بل كانت مدبرة بليل، ولا سيّما أن الاعتقال الذي تعرّض إليه بوعلام صنصال كان بمجرد وضع قدميه في مطار الجزائر. وكي تكتمل الصورة قبحاً أطلق النظام العسكري أبواقه المأجورة للتنكيل بصورة الرجل وتشويه سمعته، بينما يقبع خلف القضبان. وبينما تتعالى الأصوات المطالبة من كل أنحاء العالم بالإفراج عن المثقف الذي لا يحمل سلاحا أو قنبلة، ويكتفي بالكتابة والتعبير عن رأيه، أمر قاضي التحقيق بمحكمة الدارالبيضاءبالجزائر بإيداع الكاتب الذي يبلغ من العمر 75 سنة السجن المؤقت على قيد التحقيق، بعد توجيه تهم تتعلق بالإضرار بالمصلحة الوطنية والمساس بسلامة الوحدة الوطنية عقب تصريحات أدلى بها لمجلة فرنسية. وما هي هذه التصريحات التي أزعجت نظام الكابرانات ودفعته إلى محاولة إسكات هذا الصوت الحر؟ طبعا يتعلق الأمر بالمغرب، وحدوده الشرقية المجتزأة. فقد أكد الرجل في تصريح لمجلة "فرونتيير" أن الكثير من الأراضي الموجودة في غرب الجزائر هي مقتطعة من المغرب إبان فترة الاستعمار. هل قال بوعلام صنصال شيئا يخالف الحقيقة؟ هذا الواقع يعلمه الكابرانات أنفسهم جيدا، لأن منهم من عايش هذه الحقبة، ويعلم أن الاستعمار الفرنسي ضمّ الكثير من الأراضي المغربية، ولا سيّما في الصحراء الشرقية إلى التراب الجزائري ظلما وعدوانا. واليوم أصبح الحديث عن حقائق تاريخية بكل صراحة وشجاعة جريمة يعاقب عليها القانون الجزائري، وقد تؤدي بصاحبها إلى التهلكة والسجن وربما التنكيل. ولن نبالغ إذا قلنا إن ما شفع لبوعلام صنصال أنه يحمل أيضا الجنسية الفرنسية، لأنه لو تعلّق الأمر بمواطن جزائري يعيش في الجزائر، وعبّر عن هذه الحقيقة التاريخية التي يعرفها الجميع لكان مصيره دون شك التعرّض إلى السجن دون محاكمة أو حتى الاغتيال أو الإخفاء القسري. لقد تحوّلت قضية الكاتب بوعلام صنصال إلى قضية الصوت الجزائري الحرّ الذي يريد أن يدفع الذات الجزائرية إلى مراجعة داخلية جريئة تتجاوز الكثير من الأكاذيب والأوهام الموروثة من الماضي. وهنا تكمن أهمية ما قاله هذا الكاتب بعد تجربة عمر طويل. لقد ركّز على العقدة الجزائرية العميقة التي تؤنب ضمير بعض الجزائريين الأحرار، لكنها تثير عار النظام ومن والاه من أصحاب العقلية الاستبدادية والعسكرية. لكن هذه المراجعة الذاتية ليست مجرد تأنيب نفسي أو شخصي، بل ترتبط في الحقيقة بقراءة واعية يجريها مثقف كبير، له وزنه وتأثيره في الساحة العلمية والثقافية الفرنسية. وإذا كان قد أثار هذه النقطة فلأنه يدرك جيدا أن ثمة مسكوت عنه في هذه المسألة التاريخية. وبدلا من أن يفتح هذا النظام المستبد النقاش الحرّ والنزيه بين المثقفين الجزائريين للردّ على الرجل بالحجة والبرهان، إن كان لديهم حجة وبرهان، يطلق عليه الماكينة القضائية والأمنية والإعلامية المأجورة، ويحوّل تصريحاته التي أدلى بها خارج الجزائر إلى جريمة لا تُغتفر. بل يبدو أن نظام الكابرانات يحاول من خلال هذا التنكيل برجل مثل بوعلام صنصال أن يغلق الباب تماما على أيّ قراءة مشابهة لتاريخ الجزائر المعاصر، وعلاقة الاستعمار الفرنسي بإعادة تشكيل خارطة المنطقة، ومن ثمّ منع أيّ احتمالية لهذه المراجعة التي ستكشف لا محالة حقيقة دولة الجزائر، ودور فرنسا المؤسف في اختلاقها من العدم، وحقيقة هذه الجريمة الترابية التي اقترفتها ولا تزال مستمرة إلى اليوم.