محكمة العدل الأوربية التي قررت إلغاء اتفاقية الفلاحة والصيد البحري فتحت الباب على مصراعيه أمام فرصة تاريخية لبلادنا من أجل تعزيز السيادة الوطنية والاستقلالية الاقتصادية. صحيح أن الشراكة مع دول الاتحاد الأوربي تمثل رهانا استراتيجيا بالنسبة إلى بلادنا، ويتعين علينا تعزيزها والمحافظة عليها، لكن ما حدث يؤكد أيضا ضرورة التفكير في استثمار خيرات أقاليمنا الجنوبية العزيزة بناء على رؤية اقتصادية واستثمارية وطنية تسهم في بناء اقتصاد أزرق أكثر قوة وازدهارا. وإذا كانت هذا الحكم الذي أصدرته المحكمة بناء على دعوى تقدمت بها الجبهة الانفصالية لا يعني شيئا بالنسبة إلينا في المغرب، ولا أثر له في سيادتنا على الأقاليم الجنوبية فمن الممكن أن يمثل في الوقت نفسه جرس إنذار ينبهنا إلى ضرورة مراجعة مخططاتنا التنموية في هذا الاتجاه. الشراكة الفلاحية والبحرية مع أوربا كانت دائما ورقة مرتبطة بالاستغلال والضغوط التي تُمارسها بعض الجهات في الاتحاد الأوربي، وتوجهها لأغراض سياسوية مكشوفة. والدليل على ذلك أن هذا الحكم القضائي المشبوه صدر في غياب الحد الأدنى من الضمانات القضائية العادلة، وعلى رأسها مشاركة الطرف المعني بالموضوع. لقد أوضحت وزارة الشؤون الخارجية هذه المسألة في البلاغ الذي أصدرته عندما أكدت أن المغرب ليس طرفا في هذه القضية، التي تهم الاتحاد الأوروبي من جهة، والبوليساريو المدعومة من قبل الجزائر من جهة أخرى"، مؤكدة أن "المغرب لم يشارك في أي مرحلة من مراحل هذه المسطرة، وبالتالي يعتبر نفسه غير معني بتاتا بهذا القرار". ليست عدم مشاركة المغرب في أيّ مرحلة من مراحل المسطرة القضائية راجعة إلى إهمال أو تقاعس، بل إلى اختيار واضح، لأننا لا يمكن أن نضع أقاليمنا الجنوبية قيد أيّ مساومة أو مساءلة أو تشكيك من أيّ جهة قضائية كانت، إقليمية أو قارية أو دولية. بعبارة أوضح لقد بتّت محكمة العدل الأوربية في قضية خارجة عن نطاق اختصاصاتها وأصدرت قرارا مبنيا على "جهل تام بحقائق الملف، إن لم يكن انحيازا سياسيا صارخا" وفقاً لما ذكرته وزارة الشؤون الخارجية. لذا؛ فإن تجاهل هذا الحكم الذي لا اعتبار له، يمثل موقفا منطقيا وملائما ضد هذه الجهات التي تحاول باستمرار توظيف الورقة القانونية المزعومة لنيل بعض المكاسب وممارسة بعض الضغوط والمساومات. أقاليمنا الجنوبية ليست للبيع ولا للمساومة. وقرار محكمة العدل الأوربية قد يكون فرصة تاريخية للتركيز على بلورة مخطط فعّال من أجل استغلال وطني أمثل لثرواتنا البحرية والفلاحية. قبل سنوات عديدة راهن المغرب على فتح ورش تطوير قطاع الصيد البحري من خلال إنشاء شركات مختلطة تستثمر في هذا الميدان، لكن هذه التجربة لم تثبت نجاحها، وظل هذا القطاع تقليديا ومتعثرا وموسميا وعاجزا عن بناء أسطول صيد متطور وقادر على تغطية السواحل الوطنية. لذا؛ كان اتفاق الصيد البحري الذي تستفيد منه على الخصوص إسبانيا خيارا اقتصاديا منطقيا ومعقولا، لكن هذا الحدث القضائي الذي أصبح نكتة سمجة يذكّرنا من جديد بأهمية السيادة الاقتصادية على ثرواتنا البحرية. في خطابه بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء أكد الملك محمد السادس على "أهمية مواصلة الاستثمار في مجالات الصيد البحري، إلى جانب القطاعات الأخرى قصد النهوض بالاقتصاد الأزرق" في الأقاليم الجنوبية. وقد كان لافتا جدا حرص الملك على توجيه هذه الرسالة في سياق اقتراب نهاية اتفاق الصيد البحري ما يعني أن الإرادة السياسية العليا في بلادنا مدركة لأهمية هذا الورش في تعزيز السيادة الوطنية على الصحراء المغربية عموما، والثروات الوطنية خصوصا. وما يؤكد ذلك هو الاستثمارات الهائلة التي خصصتها بلادنا لتدشين بنيات تحتية ضخمة على غرار ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيكون أحد أكبر موانئ إفريقيا، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق. لذا؛ فإن أفضل رد على هذه المحاولة الابتزازية الجديدة التي تتعرض إليها بلادنا هو الشروع في بلورة مخططات واضحة لتطوير قطاع الصيد البحري، وتأهيل الشركات الوطنية العاملة في هذا المجال من أجل تثمين الإنتاج البحري الموجه للأسواق الداخلية أو الخارجية. وإذا كانت بعض الأطراف التي تقف وراء هذا الابتزاز تحاول دفع المغرب إلى تقديم تنازلات معينة في هذا المجال، فعليها أن تدرك أن هذا النوع من التلاعب لم يعد مجديا لأن بلادنا تبنت موقفا ثابتا إزاء عدم الالتزام بأي اتفاق أو وثيقة قانونية لا تحترم وحدتها الترابية والوطنية.