لم يعد هناك مجال لتأخير التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار نهائي في غزة، وتبادل الأسرى وإعادة النازحين إلى مناطقهم. وصل العدوان على القطاع مستوى غير مسبوق، وبلغت الخسائر البشرية والمادية درجات قياسية، ولم تعد حياة الغزيين تُطاق بسبب الجوع والعطش والأمراض والقصف الذي لا يتوقف. معاناة المدنيين دفعت حركة حماس والفصائل الفلسطينية إلى تقديم الكثير من التنازلات الظرفية من أجل التوصل إلى هذا الاتفاق على الرغم من أن المواجهة الميدانية ما تزال متواصلة، وخسائر جيش الاحتلال الإسرائيلي اليومية لا تنتهي. وأكبر دليل على أن الظروف الموائمة لهذا الاتفاق قد نضجت هو إعلان حزب الله أن توقف وقف إطلاق النار في غزة يعني أيضا توقف إطلاق النار في جنوبلبنان وشمال إسرائيل. هذه الخرجة الإعلامية التي تحدث فيها زعيم الحزب حسن نصر الله، كانت على ما يبدو بتنسيق كامل مع فصائل المقاومة الفلسطينية وباشتراط غير مباشرة من إسرائيل التي تريد أن تحصل على اتفاق شامل لمناطق الشمال، التي تشتعل فيها المواجهات مع حزب الله من حين لآخر، ويعجز سكانها عن العودة إليها منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر، بعد أن انضم حزب الله إلى بعض الفصائل الأخرى الموالية لإيران في عملية إسناد حماس وفصائل غزة. ولعل الإعلان الرسمي الذي قدمه حسن نصر الله كان جزء من الشروط التي وضعتها إسرائيل قبل الحسم في الاتفاق النهائي على خلفية المفاوضات التي دارت منذ أيام في قطر. عاد المفاوض الإسرائيلي وينتظر الجميع الإعلان عن هذا الاتفاق في الساعات أو الأيام القليلة المقبلة. وحده رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وشركاؤه بن غفير وسموتريتش، يرفضون على ما يبدو التوصل إلى اتفاق كهذا، ويفضلون استمرار الحرب. ويبدو نتنياهو أكبر المتضررين من هذا الاتفاق، ولا سيّما بعد أن كشفت التحقيقات الرسمية الإسرائيلية وجود تقصير كبير في عملية تحصين الحدود ضد الهجوم الذي قادته حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي. تقرير التحقيق الذي نشره الجيش الإسرائيلي يشير صراحة إلى وجود تقصير وإهمال واضح خلال الهجوم أدى إلى الإضرار بأمن العديد من الإسرائيليين والمستوطنات المحاذية لقطاع غزة. هذه الخلاصة تبدو إلى حد كبير في مصلحة رئيس الحكومة الذي يحاول على ما يبدو إبراء ذمة القرار السياسي وإلقاء اللوم والمسؤولية على عاتق القادة العسكريين. لكن نتنياهو لن يتوقف عند هذا الحد. فعلى الرغم من أن الاتهامات ستنصبّ على قادة الجيش والمخابرات إلا أن مسؤوليته تظل قائمة باعتبار أن هذه المؤسسات تعمل جميعا تحت إمرته وإدارته المباشرة. وإذا كانت قد حذّرته من قبل في تقاريرها اليومية من احتمالية لجوء حركة حماس إلى هجوم عسكري منسق أو عملية خاطفة فإن هذا يعني تحمّله المسؤولية أيضا عمّا حدث. لذلك لاحظنا كيف حرص بنيامين نتنياهو منذ اندلاع هذا العدوان على إفشال مسار المفاوضات، وضرب أيّ إمكانية للتوصل إلى اتفاق مع حركة حماس. ومن المحتمل أن يحدث الأمر نفسه في المفاوضات الحالية. لكن الملحوظ أن نتنياهو بقي وحده تقريبا في صفّ المطالبين باستمرار الحرب حتّى اجتثاث حركة حماس. حتى قادة الجيش ووزير الدفاع الحالي والإعلام الإسرائيلي وغالبية الأحزاب السياسية أضحت تتحدث عن ضرورة إنهاء عملية الزج بالجيش الإسرائيلي في حرب دون أفق واضح، أو هدف محدد ولا سيّما أن كل أشكال التنكيل والحصار والعدوان على قطاع غزة، لم تنجح في القضاء على المقاومة، وإنهاء العمليات الخاطفة التي تقوم بها حركة حماس ضد أفراد الجيش وكتائبه. والدليل على ذلك أن الكمائن العسكرية التي نصبتها المقاومة مؤخرا في منطقة الشجاعية تؤكد أن الجيش الإسرائيلي لن يتمكن أبدا من السيطرة على غزة إلا إذا كان مستعدا لخوض حرب لا محدودة. لذلك يبدو أن قدرة نتنياهو على إقناع المجتمع الإسرائيلي باستمرار الحرب دون استعادة الأسرى وصلت إلى أدنى مستوياتها، ومع ذلك فإن هامش المناورة الذي يمتلكه لم يضِق بالكامل، وبإمكانه أن يوظف مجددا نتائج التفاوض لخدمة أجندته الشخصية: البقاء في السلطة حتى التوصل إلى صفقة تخلّصه من المحاسبة المرتقبة.