من الواضح أن تأكيد الملك محمد السادس على أهمية مشروع أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب يعتبر رهانا من رهانات المستقبل التي ميّزت دائما النظرة الملكية إلى التنمية في القارة السمراء. لكن هذه التنمية القارّية، التي كان جلالته من بين أهم روادها في العقدين الماضيين، هي أيضا جزء من المشروع التنموي الكبير الذي أطلقه صاحب الجلالة في الأقاليم الجنوبية للمملكة منذ توقيع الاتفاقيات الخاصة به في نونبر 2015. هذا يعني أن المنظور الملكي للتنمية في هذه الأقاليم العزيزة لا يخرج عن الرؤية الملكية العامة لمستقبل إفريقيا وعلى الخصوص في غرب هذه القارة. ولأن هذه الرؤية الملكية تؤمن بالمنجز والملموس كان من الضروري أن يُذكّر جلالة الملك في خطابه بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين للمسيرة الخضراء بالحصيلة العملية بعد مرور أكثر من سبع سنوات على إطلاق البرنامج التنموي للأقاليم الجنوبية، حيث بلغت نسبة الالتزام بإنجاز المشاريع 80 في المائة، وهي نسبة جد متقّدمة بالنظر إلى الصعوبات الجغرافية والظرفية الاقتصادية والاستثناء الذي مرّ بها المغرب والعالم خلال جائحة فيروس كورونا إضافة إلى تداعيات الأزمة التي أُثارها النزاع الروسي الأوكراني. على الرغم من كل هذه العقبات فإن ما تحقّق على أرض الصحراء المغربية من مشاريع وبرامج يعد بمثابة معجزة حقيقية هندسة وتمويلا وتشييدا. يُعلن جلالة الملك محمد السادس من خلال هذه الحصيلة عن وجه الصحراء المغربية الجديد الذي سيعتمد على الطاقات البديلة والربط الطرقي الوطني من مستوى عالي إضافة إلى النمو الهائل المرتقب في ميدان الاقتصاد الأزرق القائم على استغلال مؤهلات المحيط الأطلسي باعتباره واجهة بحرية ثانية للمغرب، الذي يتمتع بازدواجية في الواجهات البحرية، بشكل يثير غيرة الجيران وحسدهم. ولعلّ مشروع ميناء الداخلة-الأطلسي، الذي سيشكل أيضا ثورة في مجال التنمية المتعددة الأبعاد بالأقاليم الجنوبية، على غرار تلك التي أحدثها ميناء طنجة المتوسط في الأقاليم الشمالية. هذا الخطاب الملكي إذن هو بيان واقعي وبلاغ عملي عن المعنى الحقيقي للترافع عن مغربية الصحراء وتحصين الوحدة الترابية، لا من خلال المناظرات والدفوعات القولية فقط، وإنما من خلال التنمية التي تعدّ أهم وأنجع وسيلة لتثبيت الوحدة الترابية والتصدي لأي شكل من أشكال المؤامرات الانفصالية. ولهذا فإن خطاب المسيرة في ذكراها السابعة والأربعين انشغل كثيرا بالفعل والعمل بعيدا عن أي انجراف وراء الجدل، في سياق سياسي يتميز باستمرار خصوم الوحدة الترابية في بذل كل ما لديهم من جهد سياسي ودبلوماسي واقتصادي للنيل من الوحدة الترابية لبلادنا. ومن هنا فإن الخطاب الملكي ينطوي على رسالة بليغة موجهة لكل من يهدرون مقدّرات شعوبهم وثروات أوطانهم في التآمر على الآخرين بدلا من استثمارها في بناء بلدانهم وتنميتها. خطاب الذكرى السابعة والأربعين للمسيرة الخضراء إعلان عن ميلاد مرحلة جديدة في مسلسل التنمية بالأقاليم الجنوبية التي ستعزز في المستقبل القريب ارتباطها بعمقها الإفريقي من خلال جسر الربط الطرقي وأنبوب الغاز نيجيريا المغرب الذي سيوحد 15 بلدا إفريقيا حول هدف إفريقي يضمن الأمن الطاقي والسيادة التنموية. وبينما تُضيع بعض الأنظمة في الجوار مليارات البترودولار في شراء الأسلحة وتمويل اللوبيات وتمزيق القارة السمراء، لا يريد جلالة الملك محمد السادس أن تفوت فرصة حدث المسيرة دون أن يؤكد رهانه الشخصي ورؤيته الاستراتيجية الثابتة حول ضرورة استثمار مؤهلات القارة الإفريقية التي تعدّ مستقبل العالم الاقتصادي. لا يتعلق الأمر هنا فقط ببراغماتية اقتصادية وإن كانت مشروعة، وإنما بوفاء ملكي راسخ للانتماء إلى هذه القارة الذي لطالما أكد جلالته على ضرورة الانفتاح عليها وربط الجسور مع شعوبها من أجل بناء مستقبل مشترك يخرجها من الاستغلال الذي تعرضت له لعقود دون أن تكسب من ورائه المكاسب الطبيعية. ومن هنا فإن مشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب سيمثل في السنوات القليلة المقبلة واحدا من أهم المشاريع المهيكلة ليس فقط على صعيد القارة الإفريقية بل على المستوى العالمي، وخصوصا أنه ثمرة لصيغة تنموية عزيزة على قلب جلالة الملك محمد السادس وهي صيغة التعاون جنوب-جنوب.