يتزامن حلول شهر رمضان المعظم هذه الأسابيع مع مرور الذكرى الثالثة لزيارة بابا الفاتيكان للمغرب، والتي جرت بين السبت والأحد 30-31 مارس 2019، في حدث متعدد القراءات ومركب التفاعلات، خاصة أنه تميز بلقاء بين رمزين دينيين عالمين، الأول هو الملك محمد السادس الذي يُمثل مؤسسة إمارة المؤمنين، والثاني هو بابا الفاتيكان الذي يُمثل الكنيسة الكاثوليكية، حتى إنه يُلقب ب"الحبر الأعظم". نروم في هذه المقالة، العودة إلى بعض دروس وإشارات الحدث والتفاعلات معه، والتي اتضح حينها، أنه في الشق الخاص بنا هنا، وتحديداً الشق الخاص بالنخبة الدينية والفكرية، جاء التفاعل متواضعاً، مع أن الأمر كان يهم حدثاً حظي بمتابعة عالمية. على سبيل الاستئناس، يجب التذكير بأن متابعة أشغال اليوم الأول من الزيارة ناهزت مليار و700 مليون متابع على الصعيد العالمي، بينما وصل الرقم في اليوم الموالي إلى مليار و100 مليون، وهي أرقام لا تحظى بها العديد من المناسبات السياسية والرياضية والفنية وغيرها. هذا التواضع في التفاعل والذي يهم النخبة الدينية والفكرية، كان أحد أهم الأسباب التي جعلتنا نخصص للحدث محوراً خاصاً ضمن محاور تقرير الحالة الدينية الذي يصدر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، والحديث عن الإصدار الثالث الخاص بفترة 2018-2020، بمعنى أنه على الرغم من أن المحور الذي يتطرق لأداء مؤسسة إمارة المؤمنين في التقرير توقف عند حدث الزيارة، إلا أنه تقرّر تخصيص محور للحدث لأنه يستحق ذلك، ولأن من بين الدروس أيضاً، تلك الخاصة بتفاعل الرأي العام، وقد نشرنا مقالة في الموضوع حينها، هنا بموقع "الدار"، تحدثنا فيها عن هذه المعضلة، مع وقفة عند تبعات أسلمة مخيال المغاربة. لماذا هذا التذكير إذن بالزيارة، بعد أن مرّت ثلاث سنوات على هذه المحطة التاريخية في العلاقات بين دولة مسلمة وبابوية الفاتيكان؟ نزعم أنه يمكن الإحالة على عدة أوجه تقتضي هذا التذكير، وبيان ذلك كالتالي: يوجد في مقدمة هذه الأسباب، التذكير بسبق هذه الزيارات في المنطقة العربية والإسلامية، على اعتبار أن الأمر يهم المرة الثانية التي يزور فيها "الحبر الأعظم" عند النصارى [حسب الاصطلاح القرآني] دولة مسلمة، وجاءت الزيارة الأولى في سنة 1985، قبل قدوم زيارة 2019، مع الأخذ بعين الاعتبار قلة مثل هذه الزيارات لدول مسلمة. من بين المحددات أيضاً، التوقف عند رسائل وإشارات الزيارة، ومعها رسائل المبادرات التي جاءت فيها، من قبيل خطاب أمير المؤمنين، نداء القدس الشريف، منها أيضاً، دلالات إحالة الخطاب الملكي الذي تلي بأربع لغات أمام الجميع، على المرجعية القرآنية في ثلاث مرات على الأقل، من باب العودة إلى الأصل وتأكيد الهوية والمرجعية، والاستشهاد بما تقدمه لنا الآيات القرآنية في معرض التفاعل مع عدة قضايا، من قبيل التطرف العنيف، أو خدمة المشترك الإنساني، ومنها استشهاد أمير المؤمنين بالآية القرآنية التي جاء فيها: "على كلمة سواء بيننا وبينكم"، أي الكلمة التي "تتجاوز دلالاتها المعنى الضيق للتوافق التحكيمي. فنحن نفهمها ونعيشها كرسالة مشتركة بين المسلمين والمسيحيين واليهود، موجهة للبشرية جمعاء. وذلكم هو ما يجمعنا اليوم، وما ينبغي أن يوحدنا في المستقبل"، يضيف الخطاب نفسه. ميزة الخطاب الملكي في اللقاء وإضافة إلى كونه صوت قائد روحي معاصر يتفرد برمزية أمير المؤمنين، أنه يُذكر الجميع بمرجعية المؤسسة، في شقيها السياسي والديني بالنسبة للمغاربة على الأقل، ما دامت تسهر هذه المؤسسة على حماية الدين، وتوجد في مقدمة الساهرين على حماية مؤسسات الدولة، وقد اتضحت أهميتها في عدة محطات، من قبيل اعتداءات الدارالبيضاء في 16 ماي 2003، حتى إن المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز نشر مقالة حينها، يُسلط الضوء على أهمية المؤسسة عند المغاربة في معرض صيانة الدين؛ أحداث "الفوضى الخلاقة" أو "الربيع العربي" [2011-2013]، ضمن أحداث أخرى اتضحت معها أهمية ومرجعية المؤسسة. من إشارات الخطاب الملكي كذلك، التذكير بالقيم الإسلامية والروحانية الغائبة أو المغيبة في خطاب العديد من الفعاليات الدينية الإسلامية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بسبب "اختطاف التديّن الإسلامي" من بعض التيارات والجماعات، بالرغم من أن للبيت ربّ يحميه، ولكن المقام، تطلب من مؤسسة إمارة المؤمنين التذكير بها، من قبيل طبيعة وأسباب التطرف الديني، ملخصاً إياه في التربية، قائلاً بالحرف: "مصدره انعدام التعارف المتبادل، والجهل بالآخر، بل الجهل، وكفى". بخصوص أسُس الحوار الرشيد بين الأديان، كما جاءت معالمه في الخطاب الملكي، فلا ضير من التذكير بالفقرة التي جاء فيها: "أردنا أن تتزامن زيارتكم للمغرب مع شهر رجب، الذي شهد إحدى أكثر الحلقات رمزية من تاريخ الإسلام والمسيحية، عندما غادر المسلمون مكة، بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولجؤوا فراراً من الاضطهاد، إلى النجاشي، ملك الحبشة المسيحي. فكان ذلك أول استقبال، وأول تعارف متبادل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية. وها نحن اليوم، نخلد معا هذا الاعتراف المتبادل، من أجل المستقبل والأجيال القادمة". بمعنى أننا لسنا في حالة ضعف حتى نتحدث عن هذا الحوار بين الأديان أو بين أتباع الأديان، ولسنا في حالة ضعف حتى نمارس التعارف أو التسامح كما صرّحَ أحد الفاعلين الدينيين هنا في المغرب، ونملك من التأصيل النظري أو التأصيل الشرعي والتجربة التاريخية في آن، ما يخول لنا الانخراط النافع والنوعي في تفعيل هذا الحوار، بصرف النظر عن مخرجات هذا الحوار، وتواضع هذه المخرجات في العديد من المبادرات التي نعاينها في المنطقة العربية والمجال المتوسطي، فهذه معضلة أخرى، ولكن الشاهد هنا أن هذه الإشارات صدرت عن مؤسسة إمارة المؤمنين في استقبال قداسة البابا. بقيت إشارتان في السياق نفسه: تهم الأولى مدارات إعادة الاعتبار للدين في حلّ مختلف القضايا العالمية طبقا للخطاب الملكي، حيث جاء في الخطاب: "تأتي زيارتكم للمغرب، في سياق يواجه فيه المجتمع الدولي، كما جميع المؤمنين، تحديات كثيرة، وهي تحديات من نوع جديد، تستمد خطورتها من خيانة الرسالة الإلهية وتحريفها واستغلالها، وذلك من خلال الانسياق وراء سياسة رفض الآخر، فضلاً عن أطروحات دنيئة أخرى"، بما يُفيد أن الخطاب يأتي بمفتاح نظري وعملي، أو تجربة محلية، يذكر بها الرأي العام عبر بوابة مخاطبة قداسة بابا الفاتيكان، عندما قال أن "المملكة المغربية حرصت على الجهر والتشبث الدائم بروابط الأخوة، التي تجمع أبناء إبراهيم عليه السلام، كركيزة أساسية للحضارة المغربية، الغنية بتعدد وتنوع مكوناتها"؛ أو قوله "أن "بصفتي ملك المغرب، وأمير المؤمنين، فإنني مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية. وأنا بذلك أمير جميع المؤمنين، على اختلاف دياناتهم. وبهذه الصفة، لا يمكنني الحديث عن أرض الإسلام، وكأنه لا وجود هنا لغير المسلمين. فأنا الضامن لحرية ممارسة الديانات السماوية. وأنا المؤتمن على حماية اليهود المغاربة، والمسيحيين القادمين من الدول الأخرى، الذين يعيشون في المغرب"، وواضح أننا إزاء نموذج فريد في المجال الإسلامي وفي المجال الغربي، لأن الأمر هنا يهم دولة عمرها 12 قرناً على الأقل. صحيح هناك مصر أو الحضارة المصرية، وهناك إيران والحضارة الفارسية، وهناك تركيا والحضارة العثمانية، ولكن لا نجد لديهم مؤسسة إمارة المؤمنين، وليس صدفة أن عبارة "بصفتينا أمير المؤمنين" تكررت ست مرات في الخطاب الملكي، لأنه لا مثيل للمؤسسة في باقي دول المنطقة وفي محور طنجةجاكارتا. وتهم الثانية، أبعاد الخطاب الملكي واستبصاراته في ضوء التحولات العالمية المعاصرة، وهي أبعاد متعددة بدورها، من قبيل إحداث "مؤسسة محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات"، والتي تخرّج منها منذ سنتين أول فوج لأئمة فرنسيين، في سابقة من نوعها، وهي المؤسسة التي أحدثت كاستجابة مغربية لطلبات العديد من البلدان الإفريقية والأوربية، باستقبال شبابها في المعهد؛ ومنها التذكير بمعضلة الجهل بالدين، وبأن مواجهة التطرف بكل أشكاله، فإن الحل لن يكون عسكرياً ولا ماليا؛ بل الحل يكمن في شيء واحد، هو التربية؛ أو التذكير بأهمية القيم الروحانية، لأنها "ليست هدفاً في حد ذاتها، بقدر ما تدفعنا إلى القيام بمبادرات ملموسة. فهي تحثنا على محبة الآخر، ومد يد العون له". مقالة للتذكير، ولإثارة انتباه النخبة الدينية والفكرية، ونزعم أن أغلب دروس الزيارة لا زالت صالحة، لأنه لا ننتظر أن تُغير هذه النخبة من مواقفها الإيديولوجية عند البعض أو المتواضعة عند البعض الآخر، بين ليلة وضحاها.