منذ أربعة عقود على الأقل، والأقلام البحثية الفرنسية منخرطة في الاشتغال على الحركات الإسلامية، وقد كان هذا الاشتغال متواضعاً ونادراً في البدايات، لأننا كنا حينها في أولى محطات انتشار الظاهرة، ولكنه أصبح قائماً بوتيرة أكبر بداية أولاً مع مرحلة ما بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، في 11 سبتمبر 2001، قبل ارتفاع وتيرة الاشتغال في النسخ الفرنسية من تلك الاعتداءات، فالأحرى ما سوف نعاينه في مرحلة ما بعد اعتداءات شارلي إيبدو، المؤرخة في 7 يناير 2015. نتوقف في هذه المقالة، عند بعض الملاحظات الخاصة بطبيعة اشتغال هذه الأسماء البحثية، والتي تنهل من عدة مرجعيات (يسارية، يمينية، إلحادية، "يسار إسلامي".. إلخ)، مع التذكير بأننا نتحدث حصراً عن الإصدارات والأعمال البحثية التي تهم الظاهرة الإسلامية الحركية، أو الإسلاموية بالتحديد، وليس المسألة الإسلامية بشكل عام، لأن هذا الباب يضم الاشتغال على أداء المؤسسات الدينية هناك، الجمعيات الإسلامية، بما فيها الطرق الصوفية، تديّن مسلمي فرنسا، "الاقتصاد الإسلامي"، أو اقتصاد "المتاجر الحلال"، وملفات أخرى، والتي يمكن أن يتقاطع الاشتغال عليها مع الاشتغال على الإسلاموية، إلا أننا ارتأينا هنا حصر طبيعة الإصدارات، في تلك الخاصة بالحركات الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالحركات الدعوية، أو المشروع الإخواني، أو الظاهرة "الجهادية". تكمن أولى الملاحظات في تعدد الملفات التي اشتغلت عليها هذه الأقلام، من قبيل الاشتغال على الظاهرة السلفية الوهابية هناك، المشروع الإخواني، الظاهرة "الجهادية"، بما يُفيد أن الساحة الإسلامية الفرنسية التي كانت تتميز بحضور التديّن الإسلامي الشعبي أو الثقافي، على غرار السائد في دول المنطقة العربية في حقبة مضىت، أصبحت هي الأخرى محطة من محطات الحضور الإسلاموي، والموزع على عدة تيارات ومشاريع، سلفية وهابية، إخوان، "جهادية".. إلخ. نأتي للملاحظة الثانية، وهي ملاحظة فرعية عن الأولى، مفادها أننا إزاء فورة في الاشتغال على الظاهرة "الجهادية"، ومن عدة مداخل نظرية، مقابل التواضع في الاشتغال على الظاهرة الإخوانية، بل وصل الأمر في الاشتغال على الظاهرة "الجهادية"، توظيف أدبيات علم النفس (فتحي بن سلامة نموذجاً) وعلم التصوف (عبد الوهاب المؤدب نموذجاً)، فالأحرى أدبيات العلوم السياسية (جيل كيبل نموذجاً) والعلوم الاجتماعية (أوليفيه روا نموذجاً)، والفلسفة (بيار أندريه تاغييف نموذجاً)، مقابل غياب هذه المقاربات المركبة في معرض الاشتغال البحثي على المشروع الإخواني، بصرف النظر عن تواضع هذا الاشتغال، وهو تواضع كمي ونوعي في آن، في تباين كلي مع الاشتغال الكمي والنوعي على الظاهرة الجهادية. تقتضي الملاحظة الثانية، البحث عن أسباب هذا التباين، ونزعم أنه مرتبط بمجموعة من المحددات، نذكر منها ثلاثة محددات على الأقل: أ من الطبيعي أن يكون اهتمام وانشغال أغلب الباحثين الفرنسيين وغير الفرنسيين في معرض التعامل مع الخطاب الإسلامي في فرنسا، منصباً أكثر على قراءة ورصد الخطاب "الجهادي" وبدرجة أقل الخطاب الإخواني، لأن الأول يثير القلاقل الأمنية ويساهم في تهديد السلم المجتمعي، كما نعاين مع ما يُشبه الاستنفار الإعلامي والسياسي كلما تعلق الأمر بالإعلان عن حادث اعتداء صادر أو محسوب عليه، وليس صدفة أنه على هامش التفاعلات الإعلامية والبحثية الإسلامية مع خطاب الرئيس الفرنسي حول "الانعزالية الإسلاموية" [2 أكتوبر 2020]، أن أغلب الأقلام الإعلامية والبحثية الإسلامية التي اعترضت على الخطاب، كانت محسوبة على المرجعيات الإسلاموية، السلفية والإخوانية، سواء تعلق الأمر بصدور مقالات رأي أو دراسات وتقارير في مراكز بحثية تابعة للمشروع الإخواني أو تابعة لمشروع "أسلمة المعرفة" في شقه الإيديولوجي، الذي يقوده الخطاب الإخواني. ب من بين أسباب هذا التباين في الاشتغال الكمي والنوعي على الظاهرة "الجهادية" في فرنسا، مقارنة مع الاشتغال المتواضع على المشروع الإخواني، رغم أن هذا الأخير أقدم زمناً، وأكثر حضوراً، وتغلغلاً في المؤسسات والجمعيات والمراكز، نجد تأثير الدعاية الإسلاموية في الساحة، الذكاء الإخواني في محاصرة كل الأصوات البحثية التي تنتقد المشروع الإخواني، بما في ذلك الأصوات التي كانت إسلاموية في مرحلة ما، كما هو الحال مع محاصرة أعمال محمد لويزي وفريد عبد الكريم، بل إن حواص سنيقر الذي كان من نقاد خطاب وأعمال طارق رمضان، كان يتعرض للحصار والنقد بسبب موقفه النقدي من حفيد حسن البناء. ج نأتي للسبب الثالث الذي قد يُفسر هذا التباين سالف الذكر، ويرتبط بهاجس الرقابة الذاتية التي تمارسها العديد من الأقلام البحثية في الساحة الفرنسية، وهي رقابة ذاتية تهم اشتغالها على الإسلاموية بشكل عام، سواء تعلق الأمر بالإسلاموية الإخوانية أو الظاهرة "الجهادية"، وثمة أسماء بحثية هناك، متتبعة للظاهرة، سبق لها أن سلطت الضوء على دور هذه الرقابة في تواضع الاشتغال البحثي على الإسلاموية في فرنسا وأوربا، منها ما جاء في كتاب "نحن والإسلاموية" للخبير بيار أندريه تاغييف، والذي أحصى ثلاثة عوامل على الأقل في هذا السياق، وهي الخشية من الاتهام بالإحالة على ملفات "حروب الأديان"، وهي ملفات حرجة في التداول البحثي الفرنسي، بسبب طبيعة النموذج العلماني الفرنسي، والتجربة السلبية التي تركتها مؤسسة الكنيسة في حقبة ما قبل ثورة 1789، وعوامل أخرى، وبالنتيجة، تنخرط أقلام الرقابة الذاتية في صرف النظر عن المحدد الديني كلما تعلق الأمر بالخوض في الحالة الجهادية الفرنسية. أما العامل الثاني، فيكمن في الحرج الذي تؤمن به أقلام الرقابة الذاتية، في حال تصنيف الشباب الفرنسي المتورط في الظاهرة "الجهادية"، بأنه قادم من مرجعية إسلامية، والحال أن هذا التصنيف، قد يتسبب في معضلة نظرية ونقدية عنوانها التفرقة بين نقد الإسلام، وهذا أمر متداول في ساحة فرنسية تتميز بارتفاع مؤشرات الحرية الفلسفية، بما في ذلك كثرة الفلاسفة الذين ينهلون من مرجعية إلحادية، وبين نقد الإسلاموية، وبسبب صعوبة التفرقة بين المقامين في النقد، تصرف هذه الأسماء النظر عن الخوض أو التوقف عند المحدد الديني، كلما تعلق الأمر بالاشتغال البحثي على الظاهرة "الجهادية" هناك. وواضح أن الأمر يتعلق بعض الأسماء، لأن هناك أسماء أخرى، أو تيار آخر، ومغاير، ويقوده الثنائي جيل كيبل وبرنارد روجيه، غالباً ما يُسلط الضوء على المحدد الديني سالف الذكر، ومن بين رموز هذا التيار نجد بيار أندريه تاغييف أيضاً. بالنسبة العامل الثالث، فمرده الرضوخ إلى قاعدة أو قانون "الصواب السياسي" الذي تتبناه العديد من النخب السياسية والفكرية والإعلامية، ولكنه في هذه الحالة، لا يرتبط بموقف ذاتي صادر بشكل تلقائي، وإنما مرتبط أيضاً بتأثير الدعاية الإسلاموية المضادة، والتي تجعل أي إسم بحثي أو فاعل سياسي أو قلم إعلامي، منخرط في الربط بين الظاهرة "الجهادية" والمحدد الديني، متهماً عند الأقلام الإسلامية الحركية وعند أقلام "اليسار الإسلامي، بأنه يُعادي الدين، وبالتالي، متهم بأنه "إسلاموفوبي"، ويذكر المؤلف هنا في لائحة المراجع، من باب الاستئناس، الثنائي طوماس غينولي وإيمانويل طود [ص 115]، وكانت هذه الأسباب الثلاثة، أرضية خَوّلت لبيار أندريه تاغييف، التنبيه إلى ما يُشبه حالة التيه التي تميز بعض القراءات الاستشرافية الصادرة عن باحثين فرنسيين متخصصين في الظاهرة الإسلامية، وخصّ بالذكر مجموعة من الأسماء التي توقعت أفول الإسلامية، ومنها الخبير الفرنسي "أوليفيه روا الذي يتحدث عن «فشل الإسلام السياسي» [1992] منذ عشرين سنة" [ص 99]، كما جاء في عناوين أحد مؤلفاته، منتقداً الصور النمطية التي يروجها الغرب حول منطقة الشرق الأوسط، دون أن تتحقق هذه القراءات على أرض الواقع، لأنها تنتصر لهاجس "الصواب السياسي" أو لأنها تنهل من نموذج تفسيري فشلت توقعاته عملياً. واضح أن تواضع الاشتغال على المشروع الإخواني تحصيل حاصل عند أقلام "اليسار الإسلامي" هناك، من قبيل ما يُحرره فرانسوا بورغا أو إدوي بلنيل، ولكن الملاحظ هنا أن هذا التواضع يهم حتى باحثين آخرين، لا علاقة لهم بالضرورة بتيار "اليسار الإسلامي"، وقد تكون من بين أسباب ذلك تواضع الوعي بطبيعة هذا المشروع، وطبيعة عمله، إضافة إلى دهاء الرموز الإخوانية في العمل النظري والميداني، انطلاقاً من تجارب الماضي في المنطقة العربية، أو انطلاقاً من نتائج ودروس أحداث الساحة، والتي تجعلهم يعيدون ترتيب الأولويات، وإطلاق المبادرات، وتغيير الاستراتيجيات، وفي هذا السياق، نقرأ تغيير المشروع الإخواني الفرنسي إسمه من "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، نحو "اتحاد مسلمي فرنسا"، في غضون 2017، وهو تغيير شكلي لا يمس الجوهر، ولكن هذه التفاصيل وغيرها، تخفى حتى عن بعض المتتبعين هناك، فالأحرى غير المتتبعين لطبيعة المشروع.